صفحة جزء
باب الهدي

عن همام عن أبي هريرة قال: بينما رجل يسوق بدنة مقلدة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك اركبها. قال بدنة يا رسول الله، قال، ويلك اركبها ويلك اركبها .

وعن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له اركبها فقال يا رسول الله إنها بدنة، فقال اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة .

وللنسائي من حديث أنس رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهده المشي ولمسلم من حديث جابر اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا وعن عروة عن عائشة قالت: إن كنت لأفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يبعث بها فما يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم وفي رواية لهما قلائد الغنم .

وللترمذي وصححه كلها غنما ولمسلم قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وللبخاري فتلت لهديه تعني القلائد قبل أن يحرم ولهما فتلت قلائدها من عهن كان عندي ولهما ثم بعث بها مع أبي .

وللنسائي وابن ماجه من حديث جابر كانوا إذا كانوا حاضرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعث بالهدي فمن شاء أحرم ومن شاء ترك


(باب الهدي) .

(الحديث الأول) .

عن همام عن أبي هريرة قال بينما رجل يسوق بدنة مقلدة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك اركبها قال بدنة يا رسول الله، قال ويلك اركبها ويلك اركبها .

وعن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له اركبها فقال يا رسول الله إنها بدنة، فقال اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة .

(فيه) فوائد:

(الأولى) أخرجه من الطريق الأولى مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق وأخرجه من الطريق الثانية البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من طريق مالك ومسلم من طريق المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي وابن ماجه من طريق سفيان الثوري ثلاثتهم عن أبي الزناد عن الأعرج .

وأخرجه البخاري أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة ورواه أبو الشيخ بن حيان في الضحايا من رواية سفيان الثوري عن أبي الزناد عن موسى عن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة كذا ذكر والدي رحمه الله في شرح الترمذي .

وروى ابن عبد البر في التمهيد هذه الرواية فصرح فيها بأنه ابن عيينة ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه من رواية عجلان مولى المشمعل عن أبي هريرة

[ ص: 144 ] (الثانية) المراد بالبدن هنا الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام ويقع هذا اللفظ على الذكر والأنثى بالاتفاق كما نقله النووي وغيره ونقل ابن عبد البر قولا إنها تختص بالأنثى ورده ؛ وهل تختص في أصل وضعها بالإبل أم تستعمل فيها وفي البقر أم فيها وفي الغنم ؟ فيه خلاف تقدم في الجمعة في الحديث الرابع ، ولو استعملت البدنة هنا في أصل مدلولها لم يحصل الجواب بقوله إنها بدنة لأن كونها من الإبل مشاهد معلوم والذي ظن أنه خفي من أمرها كونها هديا فدل بقوله إنها بدنة على أنها مهداة وقوله في الرواية الأولى بدنة بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هي بدنة.

(الثالثة) والمراد بالتقليد أن يعلق في أعناقها ما يستدل به على إهدائها وفيه دليل على استحباب تقليد الهدي وسيأتي إيضاحه في الحديث الذي بعده .

(الرابعة) فيه جواز ركوب الهدي وقد قسم أصحابنا الهدي إلى متطوع به ومنذور (فالأول) باق على ملك المهدى له فله التصرف فيه بما يشاء (والثاني) خارج عن ملكه بالنذر وفيه خلاف للعلماء ولما لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هذا الهدي عن ذلك دل على أن الحكم لا يختلف وأنه يجوز له ركوبه في الحالتين والخلاف الذي في الحالة الثانية مذاهب:

(أحدها) الجواز مطلقا وهذا هو الذي جزم به الرافعي والنووي في الروضة في كتاب الضحايا وحكاه النووي في شرح المهذب عن الماوردي والقفال وحكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير وأحمد وإسحاق وكذا حكاه النووي في شرحي مسلم والمهذب عنهم وعن مالك [ ص: 145 ] في رواية وعن أهل الظاهر وحكاه الخطابي عن أحمد وإسحاق وصرح عنهما بأنهما لم يشترطا منه حاجة إليهما.

(الثاني) الجواز بشرط الاحتياج لذلك ولا يركبها من غير حاجة قال النووي في شرح مسلم إنه مذهب الشافعي ونقله في شرح المهذب عن تصريح الشيخ أبي حامد والبندنيجي والمتولي وصاحب البيان وآخرين قال وهو ظاهر نص الشافعي فإنه قال يركب الهدي إذا اضطر إليه وقال الروياني أن تجويز الركوب من غير ضرورة خلاف النص قال شيخنا الإمام جمال الدين الإسنوي فعلى هذا لا يجوز ذلك للقادر على المشي إذا ركب مترفها ككثير من الناس ولا للقادر على غيرها بملك أو إجارة وفي الإعارة نظر ا هـ.

وتقييد الجواز بشرط الحاجة هو المشهور من مذهب مالك وأحمد ، قال ابن شاس في الجواهر ولا يركبها إلا أن يحتاج إلى ركوبها فيركبها ثم ينزل إذا استراح، وقال ابن القاسم إذا ركبها لم يلزمه أن ينزل وإن استراح انتهى وكأن ابن القاسم اعتبر الحاجة في الابتداء دون الدوام وجزم المجد بن تيمية في المحرر بجواز ركوبها مع الحاجة ما لم يضر بها وبهذا قال ابن المنذر وجماعة ورواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وحكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق .

(الثالث) الجواز بشرط الاضطرار لذلك وهو الذي يقتضيه نص الشافعي الذي قدمت ذكره وإن كان النووي استشهد به للتجويز بشرط الحاجة فقد علم أن الضرورة أشد من الحاجة وكذا نقله ابن المنذر عن الشافعي فقال وقال الشافعي يركبها إذا اضطر ركوبا غير قادح ولا يركبها إلا من ضرورة، وكذا حكى الخطابي عن الشافعي ورواه مالك في الموطإ عن عروة بن الزبير وجزم بذلك صاحب الهداية من الحنفية فقال ومن ساق بدنة فاضطر إلى ركوبها ركبها وإن استغنى عنها لم يركبها لكنه قال بعد ذلك إلا أن يحتاج إلى ركوبها واستدل له بهذا الحديث وقال وتأويله أنه كان عاجزا محتاجا انتهى وهذا يقتضي أن الضرورة والحاجة عنده شيء واحد هنا ويوافق التعبير بالضرورة كلام النووي في شرح مسلم فإنه بعد [ ص: 146 ] حكاية المذهبين الأولين قال وقال أبو حنيفة لا يركبها إلا أن لا يجد منه بدا ويوافقه قول ابن المنذر في الإشراف وقال أصحاب الرأي لا يركبها وإن احتاج ولم يجد منه بدا حمل عليه وركبه، وروى ابن أبي شيبة عن الشعبي قال لا يركب البدنة ولا يحمل عليها إلا من أمر لا يجد منه بدا وحكاه الخطابي عن الثوري وقال ابن عبد البر : الذي ذهب إليه مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وأكثر الفقهاء كراهية ركوب الهدي من غير ضرورة.

(الرابع) منع ركوبها مطلقا قال ابن المنذر وقال الثوري في قوله لكم فيها خير قال الولد واللبن والركوب فإذا سميت بدنا ذهبت المنافع، وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال في ألبانها وظهورها وأوبارها حتى تسمى بدنا فإذا سميت بدنا فمحلها إلى البيت العتيق .

(الخامس) وجوب ركوبها حكاه ابن عبد البر والقاضي عياض فمن قال بالجواز مطلقا تمسك بظاهر هذا الحديث فإنه عليه الصلاة والسلام أمر بذلك والأمر هنا للإباحة ولم يقيد ذلك شيء ومن قيد الجواز بالحاجة أو الضرورة قال هذه واقعة محتملة وقد دلت رواية أخرى على أن هذا الرجل كان محتاجا للركوب أو مضطرا له روى النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة وقد جهده المشي قال اركبها الحديث.

وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير قال سمعت جابر بن عبد الله سئل عن ركوب الهدي فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا ورواه مسلم أيضا من هذا الوجه بدون قوله إذا ألجئت إليها ومن منع مطلقا فهذا الحديث حجة عليه ولعله لم يبلغه ولعل أحدا لم يقل بهذا المذهب ويكون معنى قول الثوري ذهبت المنافع أي بالملك وإن بقيت بالارتفاق، ومن أوجب فإنه حمل الأمر على الوجوب، ووجهه أيضا مخالفة ما كانت الجاهلية عليه من إكرام البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وإهمالها بلا ركوب، ودليل الجمهور أنه عليه الصلاة والسلام أهدى ولم يركب هديه ولم يأمر الناس بركوب الهدايا، وحكى ابن عبد البر الخلاف في الهدي الواجب والتطوع.

(الخامسة) محل جواز ركوب الهدي ما لم يضر به الركوب وهذا [ ص: 147 ] متفق عليه بين أصحابنا الشافعية وغيرهم وعليه يدل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث جابر اركبها بالمعروف قال أصحابنا والحنفية ومتى نقصت بالركوب ضمن النقصان ومقتضى نقل ابن عبد البر عن مالك أنه لا يضمن.

(السادسة) قال أصحابنا الشافعية والحنفية كما يجوز ركوبها يجوز الحمل عليها ورواه ابن أبي شيبة عن عطاء وطاوس ومنع مالك الحمل عليها وقال لا يركبها بالمحمل حكاه ابن المنذر وظاهر إطلاق أصحابنا أنه لا تحجير عليه في كيفية الركوب فله أن يركبها كيف شاء ما لم يضر بها وهو ظاهر إطلاق الحديث والحمل مقيس على الركوب ويعود في الحمل ما سبق من تجويزه مطلقا أو بقيد الحاجة أو الضرورة.

(السابعة) قال أصحابنا كما يجوز له الركوب بنفسه يجوز له إقامة غيره في ذلك مقام نفسه بالعارية فله أن يعيرها لركوب غيره وقياس قولهم جواز إعارتها للحمل أيضا ويعود فيه ما سبق من الإطلاق أو اعتبار الحاجة أو الضرورة وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال: له أن يحمل المعيا والمضطر على هديه وهو شاهد لما قلناه ومنعوا إجارتها لأنها بيع للمنافع ونقل القاضي عياض الإجماع على هذا وقد يستشكل على هذا جواز الإعارة ويقال منع الإجارة يدل على أنه لم يملك المنفعة وإنما ملك أن ينتفع ومقتضى ذلك امتناع الإعارة كما يمتنع عند أصحابنا إعارة المستعار لكنهم وجهوا الإعارة بأنها إرفاق فجوزت كما يجوز له الإرفاق بها.

(الثامنة) ألحق أصحابنا بالهدايا في ذلك الضحايا فيعود فيها جميع ما سبق من الركوب وفروعه .

(التاسعة) أشار البخاري في صحيحه إلى إلحاق الوقف في ذلك بالهدي فبوب على هذا الحديث (باب هل ينتفع الواقف بوقفه ) قال وقد اشترط عمر لا جناح على من وليه أن يأكل وقد يلي الواقف وغيره قال وكذلك من جعل بدنة أو شيئا لله فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره وإن لم يشترط انتهى وقد قال أصحابنا يجوز أن ينتفع الواقف بأوقافه العامة كآحاد الناس كالصلاة في بقعة جعلها مسجدا أو الشرب من بئر وقفها والمطالعة في كتاب وقفه على المسلمين والشرب من كيزان سبلها على العموم والطبخ في قدر وقفها على العموم [ ص: 148 ] أيضا والمشهور عندهم منع وقف الإنسان على نفسه وهو المنصوص للشافعي ومع ذلك فاختلفوا فيما لو شرط الواقف النظر لنفسه وشرط أجرة هل يصح هذا الشرط ؛ وقال النووي الأرجح هنا جوازه قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح ويتقيد ذلك بأجرة المثل واختلفوا في ذلك أيضا فيما لو وقف على الفقراء ثم صار فقيرا هل يجوز له الأخذ من ذلك تفريعا على منع الوقف على النفس ؛ قال الرافعي ويشبه أن يكون الأصح الجواز ورجح الغزالي المنع لأن مطلقه ينصرف إلى غيره.

(العاشرة) قوله ويلك كلمة تستعمل في التغليظ على المخاطب وأصلها لمن وقع في هلكة وهو يستحقها فهي كلمة عذاب بخلاف ويح فهي كلمة رحمة وفيها هنا وجهان:

(أحدهما) أنها على بابها الأصلي ثم يحتمل أن يكون ذلك لأمر دنيوي وهو أن هذا الرجل كان محتاجا إلى الركوب فقد وقع في تعب وجهد ويدل لذلك قوله في رواية النسائي من حديث أنس وقد جهده المشي ويحتمل أن يكون لأمر ديني وهو مراجعته للنبي صلى الله عليه وسلم وتأخر امتثاله أمره (فإن قلت) هذا الأمر إنما هو للإباحة عند الجمهور فكيف استحق الذم بترك المباح الذي لا حرج فيه ؟.

(قلت) لما فهم منه من توقفه في الإباحة حيث صار يعارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالركوب بقوله أنها بدنة يشير بذلك إلى أنه لا يباح ركوبها لكونها هديا (فإن قلت) معارضته النبي صلى الله عليه وسلم في الإباحة شديدة تؤدي إلى الكفر فكيف مخلص هذا الرجل منها ؟.

(قلت) ما عارض عنادا بل ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم أنها هدي فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال له اركبها وإن كانت بدنة بادر لامتثال أمره وركب، وقال أبو هريرة رضي الله عنه فلقد رأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها رواه البخاري من رواية عكرمة عن أبي هريرة .

(فإن قلت) في الرواية الأولى أنه عليه الصلاة والسلام بدأه بقوله ويلك ثم قاله له في المرة الثانية والثالثة وفي الرواية الثانية أنه قال له ذلك في الثانية أو الثالثة فكيف الجمع بينهما ؟ (قلت) يحتمل أنه قال له ذلك في الأولى لأمر دنيوي وهو ما حصل له من الجهد والمشقة بالمشي وقال له ذلك في الثانية أو الثالثة لأمر ديني وهو مراجعته له وتأخر امتثال أمره.

(الوجه الثاني) أنه لم يرد [ ص: 149 ] بهذه اللفظة موضوعها الأصلي بل هي مما يجري على لسان العرب في المخاطبة من غير قصد لمدلوله كما قيل في قوله عليه الصلاة والسلام تربت يداك، أفلح وأبيه، عقرى حلقى. وكما تقول العرب لا أم له، لا أب له، قاتله الله ما أشجعه، ونظائر ذلك معروفة والله أعلم وفي رواية ابن ماجه ويحك .

(الحديث الثاني)

عن عروة عن عائشة قالت إن كنت لأفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يبعث بها فما يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم .

(فيه) فوائد:

(الأولى) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق الليث بن سعد ومسلم والنسائي من رواية سفيان بن عيينة ومسلم فقط من رواية يونس بن يزيد كلهم عن الزهري عن عروة وفي رواية الليث ويونس ضم عمرة إليه كلاهما عن عائشة وأخرجه مسلم من رواية حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة واتفق عليه الأئمة الستة من رواية القاسم ومن رواية الأسود وأخرجه الشيخان والنسائي من رواية مسروق وأخرجه مسلم من رواية أبي قلابة كلهم عن عائشة وألفاظهم [ ص: 150 ] متقاربة والمعنى واحد.

(الثانية) فيه استحباب بعث الهدي إلى الحرم وإن لم يسافر معه مرسله ولا أحرم في تلك السنة فإن قلت قولها رضي الله عنها من رواية مسروق عنها فتلت لهدي النبي صلى الله عليه وسلم يعني القلائد قبل أن يحرم يقتضي أنه أحرم بعد ذلك وهذا اللفظ في صحيح البخاري (قلت) يحتمل أن مرادها قبل السنة التي أحرم فيها ويحتمل أنها أخبرت في هذه الرواية عن حاله في سنة إحرامه وفي الرواية الأخرى عن حاله في سنة أخرى ويصرح بأنه فعل ذلك في السنة التي لم يحرم فيها قولها رضي الله عنها من رواية عمرة عنها ثم بعث بها مع أبي وهو في الصحيحين والمراد أنه بعث بها مع أبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حجته سنة تسع وفي الصحيح أيضا " ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة " وهي صريحة فيما ذكرناه والله أعلم .

(الثالثة) وفيه استحباب تقليد الهدي وهو أن يجعل في عنقه ما يستدل به على أنه هدي وهو متفق عليه في الإبل والبقر واختلفوا في استحباب تقليد الغنم فقال به الشافعي وأحمد والجمهور ورواه ابن أبي شيبة عن عائشة وعن ابن عباس (لقد رأيت الغنم يؤتى بها مقلدة) وعن أبي جعفر رأيت الكباش مقلدة .

وعن عبد الله بن عبيد بن عمير إن الشاة كانت تقلد .

وعن عطاء " رأيت أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسوقون الغنم مقلدة " وحكاه ابن المنذر عن إسحاق وأبي ثور قال وبه أقول وإليه ذهب ابن حبيب من المالكية وذهب آخرون إلى أنها لا تقلد كما أنها لا تشعر وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر وسعيد بن جبير ويوافقه كلام البخاري فإنه بوب على هذا الحديث (فتل القلائد للبدن والبقر) فحمل الحديث عليهما ولم يذكر للغنم وقال النووي في شرح مسلم هو أي تقليد الغنم مذهبنا وعلل العلماء كافة من السلف والخلف إلا مالكا فإنه لا يقول بتقليدها انتهى.

ويرد عليه ابن عمر وسعيد بن جبير وأبو حنيفة ومن وافقه من أصحاب الرأي وقد نقله هو في موضع آخر من شرح مسلم عن أبي حنيفة وظاهر هذا الحديث موافق للجمهور لأنها لم تخص بذلك هديا دون هدي وقد صرحت بالغنم في رواية [ ص: 151 ] الأسود عنها فقالت كنت أفتل قلائد الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم لفظ البخاري .

ولفظ مسلم لقد رأيتني أفتل القلائد لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم ولفظ الترمذي كنت أفتل قلائد هدي رسول صلى الله عليه وسلم كلها غنما وقال حسن صحيح وقوله كلها بالجر كأنها تأكيد للقلائد أو للهدي باعتبار المعنى وقولها غنما نصب على الحال أو التميز وحكى ابن حزم عن بعضهم أنه أول هذا الحديث على أن معناه أنها فتلت قلائد الهدي من الغنم أي من صوف الغنم ورده رواية الأسود عنها أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها لفظ مسلم وفي لفظ له كنا نقلد الشاة فيرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حلال لم يحرم منه شيء وفي لفظ للبخاري كنت أفتل قلائد النبي صلى الله عليه وسلم فيقلد الغنم ولفظ أبي داود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى غنما مقلدة وهذه الألفاظ لا تحتمل هذا التأويل الذي ذكره هذا القائل وقال ابن حزم بعد ذكره: وهذا استسهال للكذب البحت خلاف ما رواه الناس عنها من إهدائه عليه السلام الغنم المقلدة وما ذكرته أولا من الاتفاق على تقليد البقر قد نص عليه غير واحد لكن ابن حزم الظاهري خالف فيه فقال إنها لا تقلد لعدم وروده ولم أعتبره لأني لم أر له فيه سلفا ثم إن البقر داخلة في عموم الهدي المذكور في هذا الحديث وغيره وتناولها أيضا قولها رضي الله عنها فتلت قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها بناء على القول باندراج البقر في البدن واللفظ المذكور في الصحيحين من رواية أفلح عن القاسم عنها، فعزو الشيخ رحمه الله في النسخة الكبرى من الأحكام هذه الرواية لمسلم فقط فيه نظر.

(الرابعة) لم يتبين في هذه الرواية جنس القلائد المفتولة وفي الصحيحين من رواية ابن عون عن القاسم عن عائشة قالت فتلت قلائدها من عهن كان عندي لفظ البخاري ولفظ مسلم أنا فتلت تلك القلائد من عهن كان عندي وقد اختلف في العهن بكسر العين المهملة وإسكان الهاء فقيل هو الصوف وقيل الصوف المصبوغ ألوانا وقد ذكر أصحابنا الشافعية أن التقليد بالخيوط المفتولة يكون في الغنم فيقلدها إما بذلك وإما بخرب القرب بضم الخاء المعجمة وهي عراها وآذانها وأما الإبل والبقر فقالوا يستحب [ ص: 152 ] تقليدها نعلين من هذه النعال التي تلبس في الرجلين في الإحرام ويستحب أن يكون لها قيمة ويتصدق بهما عند ذبح الهدي قال المالكية ولو اقتصر على التقليد نعل واحد جاز، والأول أفضل وقال أصحابنا إنه لا تقلد الغنم النعل لنقله عليها بخلاف الإبل والبقر ولم أرهم قالوا إنه لا تقلد الإبل والبقر بالخرب والخيوط بل استحبوا أن يكون بالنعال وسكتوا عن نفي ما عداها وهذا الحديث صريح في تقليد الإبل بالخيوط ولا سيما الرواية المتقدمة فتلت قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها ومن المعلوم أن الإشعار لا يكون في الغنم وتناول لفظ البدن للإبل متفق عليه وإنما الخلاف في إطلاقه على غيرها كما تقدم والله أعلم.

وقال بعض المالكية بكراهة تقليد النعال والوبار وقال ابن حبيب احبل القلائد من مسد .

(السادسة) فيه استحباب فتل القلائد للهدي واستخدام الإنسان أهله في مثل هذا .

(السابعة) هذا الذي ذكرناه من استحباب تقليد الهدي إنما رأيت أصحابنا الشافعية ذكروه في الهدي المتطوع به والمنذور وقسم المالكية دماء الحج إلى هدي ونسك. وقالوا إن الهدي جزاء الصيد وما وجب لنقص في حج أو عمرة كدم القران والتمتع والفساد والفوات وغيرها. وقالوا إن النسك ما وجب لإلقاء التفث وطلب الرفاهية من المحظور المنجبر وجعلوا التقليد من سنة الهدى.

وقال الحنفية إن التقليد إنما يكون في هدي المتعة والتطوع والقران دون دم الإحصار والجماع والجنايات، وفرقوا بينها بأن الأول دم نسك وفي التقليد إظهاره وتشهيره، فيليق به.

وأما الثاني فإن سببه الجناية والستر أليق بها قالوا ودم الإحصار جائز فألحق بها وذكر ابن حزم الظاهري هذا التفصيل عن أبي حنيفة ثم قال وقال مالك والشافعي يقلد كل هدي ويشعر، قال وهذا هو الصواب لعموم فعل النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

وفيما ذكره نظر، فإنه لا عموم في فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، والهدي الذي ساقه إنما كان متطوعا به ولم يكن عن شيء من الدماء الواجبة المذكورة والدماء الواجبة لا تساق مع الحاج من الأول لأنه لا يدري هل يحصل له ما يوجبها أم لا، ولم أر أصحابنا تعرضوا لذلك كما تقدم فينبغي تحقيقه والله أعلم.

(الثامنة) قوله ثم يبعث بها أي مقلدة كما هو مصرح [ ص: 153 ] به في الصحيحين من رواية أفلح عن القاسم عن عائشة قالت فتلت قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها إلى البيت الحديث وفيه أنه إذا أرسل هديه أشعره وقلده من بلده ولو أخذه معه أخر التقليد والإشعار إلى حين يحرم من الميقات أو غيره .

(التاسعة) وفيه أن من أرسل هديا إلى الكعبة لا يصير محرما بمجرد ذلك ولا يجرى عليه حكم الإحرام ولا يلزمه أن يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم وسواء قلد هديه أم لم يقلده وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف وهو مذهب الأئمة الأربعة وقال ابن المنذر كان ابن عمر يقول إن قلد هديه فقد أحرم وبه قال النخعي والشعبي وقال عطاء سمعنا ذلك وقال الثوري وأحمد وإسحاق إذا قلد هديه فقد أحرم وبه قال النخعي والشعبي وقال عطاء وجب عليه، وبه قال أصحاب الرأي انتهى.

وحاصل كلامه قولان أحدهما أنه يصير محرما والثاني أنه يجب عليه الإحرام، وعدهما ابن المنذر قولا واحدا فإنه قال بعد ذلك وفيه قول ثان فحكى المذهب المشهور وكأن مراد الأخيرين وجب عليه حكم الإحرام لأنه قد صار محرما فتتحد المقالتان حينئذ وقال الخطابي عن أصحاب الرأي تفريعا على ما تقدم نقله عنهم فإن لم تكن له نية فهو بالخيار بين حج وعمرة وروى ابن أبي شيبة أنه إذا قلد هديه فقد أحرم عن ابن عمر وابن عباس والشعبي وسعيد بن جبير وسعد بن قيس وميمون بن أبي شبيب وأنه إذا قلد فقد وجب عليه الإحرام عن ابن عباس وهذا يدل على التأويل الذي قدمته وأن المراد بالعبارتين شيء واحد لكونهما معا عن ابن عباس وروى ابن أبي شيبة أنه إذا قلد وهو يريد الإحرام فقد أحرم عن ابن عباس وأبي الشعثاء وعطاء وطاوس ومجاهد ، وأنه إذا قلد وهو يريد الإحرام فقد وجب عليه الإحرام عن إبراهيم النخعي وكذا حكى الخطابي عن سفيان الثوري وأحمد وإسحاق أنه إذا أراد الحج وقلد فقد وجب عليه وهذا المذكور آخرا فيه التقييد بأن يكون يريد الإحرام فإن لم يحمل الإطلاق الأول على التقييد الثاني وغايرنا بين الإحرام وإيجاب الإحرام حصل قولان آخران مع القولين الأولين ويدل على أن ذلك لا يتقيد بإرادة الإحرام في قول [ ص: 154 ] ما رواه ابن أبي شيبة عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى ابن عباس وهو أمير على البصرة متجردا على منبر البصرة فسأل الناس عنه فقالوا إنه أمر بهديه أن يقلد، فلذلك تجرد، فلقيت ابن الزبير فذكرت ذلك له فقال بدعة ورب الكعبة . وروى ابن أبي شيبة أيضا عن عطاء وابن الأسود قالا ليس له أن يقلد ولا يحرم إلا إن شاء يوما أو يومين وهذا (مذهب خامس) حاصله أنه بالتقليد يجب عليه الإحرام وله تأخيره يوما أو يومين.

وروى ابن أبي شيبة أيضا عن الحسن البصري أنه إن فعل ذلك في أشهر الحج وجب عليه الحج وإن كان في غير أشهره لم يجب وهذا (مذهب سادس) وروى ابن أبي شيبة أيضا عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أن من بعث بهديه لا يمسك عن شيء مما يمسك عنه المحرم إلا ليلة جمع فإنه يمسك عن النساء وهذا (مذهب سابع) وروى ابن أبي شيبة أيضا عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر أنه إذا أرسل بدنته أمسك عما يمسك عنه المحرم غير أنه لا يلبي وهذا (مذهب ثامن) لأنه لم يقيد ذلك بالتقليد ولم يقل إنه محرم ولا وجب عليه الإحرام، وإنما قال يمسك عما يمسك عنه المحرم وهو الذي في صحيح مسلم عن ابن عباس أنه قال من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي وهذا أصح ما روي عن ابن عباس في هذا والله أعلم.

وروى ابن أبي شيبة أيضا عن جعفر بن محمد أنه إذا أرسل بدنته واعدهم يوما فإذا كان ذلك اليوم الذي واعدهم أن يشعر ؛ أمسك عما يمسك عنه المحرم غير أنه لا يلبي، وهذا مثل الذي قبله في الإمساك خاصة ويخالفه بأنه لا يرتبه على مجرد الإرسال بل لا بد معه من الإشعار فهو (مذهب تاسع) وروى ابن أبي شيبة أيضا عن محمد بن سيرين قال إذا بعث الرجل بالهدي أمر الذي يبعث به معه أن يقلد يوم كذا وكذا من ذلك اليوم ثم يمسك عن أشياء مما يمسك عنها المحرم وهذا (مذهب عاشر) لأنه لا يطرد المنع في كل ما يجتنبه المحرم بل يثبت ذلك في بعضها دون جميعها واعلم أن كل من رتب هذا الحكم على التقليد رتبه على الإشعار أيضا فهو في معناه فهذه عشرة مذاهب شاذة إن لم تؤول وترد إلى مذهب [ ص: 155 ] واحد وكلام النووي يقتضي التأويل فقال في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث فيه أن من بعث هديه لا يصير محرما ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا رواية حكيت عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وسعيد بن جبير وحكاه الخطابي عن أهل الرأي أيضا أنه إذا فعله لزمه اجتناب ما يجتنبه المحرم، ولا يصير محرما من غير نية الإحرام وقال في شرح المهذب إذا قلد هديه أو أشعره لا يصير محرما بذلك، وإنما يصير محرما بنية الإحرام، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة ونقل الشيخ أبو حامد عن ابن عباس وابن عمر أنه يصير محرما بمجرد تقليد الهدي، وهذا فيه تساهل وإنما مذهب ابن عباس أنه إذا قلد هديه حرم عليه ما يحرم على المحرم حتى ينحر هديه وكذا مذهب ابن عمر إن صح عنه في هذه المسألة شيء انتهى.

فذكر في شرح مسلم بعث الهدي وفي شرح المهذب تقليده ومما يدل للجمهور ما رواه النسائي من رواية الليث عن ابن الزبير عن جابر أنهم كانوا إذا كانوا حاضرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعث الهدي فمن شاء أحرم ومن شاء ترك ، وعزاه الشيخ رحمه الله في النسخة الكبرى من الأحكام لابن ماجه أيضا ولم أره عنده وهو صريح في أنه لم يكن يلزمهم حكم الإحرام ببعث الهدي ولعله إنما ورد فيمن عزمه الحج تلك السنة وإن الذين يصحبون الهدي معهم، منهم من يحرم بمجرد بعثه ومنهم من يترك الإحرام في ذلك الوقت ويؤخره إلى الميقات ؛ ويدل لذلك أن ابن حبان لما أخرجه في صحيحه بوب عليه (ذكر الإباحة للحاج، بعث الهدي وسوقها من المدينة ) فلما عبر في تبويبه بالحاج علمنا أنه فهم أن بعث الهدي المذكور كان ممن عزمه الحج والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية