صفحة جزء
باب النذر

عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته له ولكن يلفيه النذر قد قدرته له يستخرج به من البخيل يؤتيني عليه ما لم يكن آتاني من قبل وفي رواية لمسلم لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل


(باب النذر)

(الحديث الأول)

عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم [ ص: 36 ] أكن قد قدرته له ولكن يلفيه النذر قد قدرته له يستخرج به من البخيل ؛ يؤتيني عليه ما لم يكن آتاني من قبل .

(فيه) فوائد:

(الأولى) أخرجه البخاري من رواية عبد الله بن المبارك عن معمر عن همام وأخرجه أيضا من رواية شعيب بن أبي حمزة وأخرجه النسائي من رواية سفيان بن عيينة وابن ماجه من رواية سفيان الثوري ثلاثتهم عن أبي الزناد ؛ وأخرجه مسلم من رواية عمرو بن أبي عمرو كلاهما عن الأعرج عن أبي هريرة . وأخرجه مسلم أيضا والترمذي والنسائي من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل وقال الترمذي حسن صحيح.

وروى ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا إياكم والنذر فإن الله لا ينعم نعمة على الرشا وإنما هو شيء يستخرج به من البخيل .

(الثانية): النذر بفتح النون وإسكان الذال المعجمة وحكى القاضي في المشارق ضم النون أيضا وهو غريب إن لم يكن من خلل النسخة قال وهو ما ينذر الإنسان على نفسه أي يوجبه ويلزمه من طاعة لسبب يوجبه لا تبرعا وقال في النهاية يقال نذرت أنذر وأنذر نذرا إذا أوجبت على نفسك تبرعا من عبادة أو صدقة أو غير ذلك انتهى.

وذكر بعضهم أن النذر لغة الوعد بخير أو شر وشرعا الوعد بخير ؛ وقال الرافعي من أصحابنا: لا يخفى أن النذر التزام شيء وأنه قد يصح، وقد لا يصح.

(الثالثة) قوله لا يأتي ابن آدم النذر بنصب ابن آدم على أنه مفعول ورفع النذر على أنه فاعل، ومعناه أن النذر لا يأتي بشيء غير مقدر فإنه لا يقع إلا ما قدر فلا يظن الناذر الذي يعلق طاعة على حصول غرض له كقوله إن شفى الله [ ص: 37 ] مريضتي فلله علي كذا، وكذا أن النذر هو الذي حصل شفاء مريضه، بل إن قدر الشفاء فلا بد من حصوله سواء نذر أم لم ينذر، وإن لم يقدر فلا يحصل نذر أم لم ينذر، وهو إشارة إلى عدم جدوى النذر. والقصد منه دفع توهم جاهل يظن خلاف ذلك. وقوله ولكن يلفيه النذر قد قدرته له كذا ضبطناه عن شيخنا والدي رحمه الله وغيره بالفاء من ألفاه بمعنى وجده ولقيه وهو تأكيد لما قدمه من أن النذر لا يأتي بغير المقدر فأكده بأن النذر يجد ذلك الأمر مقدرا فيقع على وفق التقدير لا لأجل النذر.

والمراد إن كان ذلك الأمر يقع فهو إخبار عن إحدى الحالتين وهي حصول المطلوب وضبطناه في أصلنا من صحيح البخاري من طريق عبد الله بن المبارك عن معمر ولكن يلقيه القدر بالقاف في قوله يلقيه و (القدر) بفتح القاف والدال المهملة، ومعناه إن صح أن القدر هو الذي يلقي ذلك المطلوب، ويوجده لا النذر فإنه لا مدخل له في ذلك ويوافقه في اللفظ ويدل لهذا الضبط قوله في رواية البخاري أيضا من طريق أبي الزناد عن الأعرج ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له، ومعناه أن النذر لا يصنع شيئا وإنما يلقيه إلى القدر فإن كان قد قدر وقع وإلا فلا وبوب البخاري في صحيحه على الرواية الأولى بما يوافق ما قدرته في معنى الثانية فقال (باب إلقاء العبد النذر إلى القدر) وذلك يدل على صحة ضبط يلقيه بالقاف ولكن لا تظهر مطابقة التبويب للحديث إلا أن يكون بنصب القدر فيكون بمعنى الرواية الأخرى أي ولكن يلقيه النذر القدر أي إلى القدر فحذف حرف الجر ونصب ما بعده على طريق التوسع، وهذا مسموع في ألفاظ مقتصر فيه على المسموع، ولعل هذا منه ولم يقع هذا اللفظ عند مسلم ولم أر من تعرض للكلام عليه، والعلم عند الله - تعالى -.

وقوله يستخرج به من البخيل قال النووي : معناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدئا وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المريض وغيره مما يعلق النذر عليه انتهى.

وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : يحتمل أن يراد هنا النذور المالية ؛ لأن البخل إنما يستعمل غالبا في البخل بالمال ويحتمل أن يراد بذلك العبادات كلها كما قال في الحديث الثابت البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي ، وكما قال في الحديث الآخر أبخل الناس من بخل بالسلام [ ص: 38 ] انتهى.

وقوله يؤتيني عليه ما لم يكن آتاني من قبل معناه أن العبد يؤتي الله - تعالى - على تحصيل مطلوبه ما لم يكن أتاه من قبل تحصيل مطلوبه ففيه إشارة إلى ذم ذلك وأنه كان ينبغي للعبد أن يأتي بتلك القربة سواء حصل مطلوبه أم لا ؛ فهذه هي العبادة الخالصة والله أعلم.

(الرابعة) هذا الحديث في أصلنا وفي صحيح البخاري منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير حكاية له عن الله - تعالى - ولا يستقيم أن يكون من كلام النبوة ؛ لقوله قد قدرته له وقوله يؤتيني عليه ولهذا كان والدي رحمه الله يقول لعله (قال الله - تعالى -) وأما رواية مسلم وغيره فهي واضحة ؛ لأنه ليس فيها إسناد ضمير إلى الله - تعالى -.

(الخامسة) فيه إشارة إلى ذم النذر وأنه لا منفعة له وأنه لا يصدر إلا من بخيل لا يعطي الشيء تبرعا، وإنما يعطي شيئا في مقابلة شيء وفي صحيح مسلم وغيره من طريق العلاء بن عبد الرحمن التصريح بالنهي عنه لكن سياقه يقتضي أن ذلك إنما هو في نذر المجازاة وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع بلية فإنه هو الذي فيه الأوصاف المقتضية للذم المذكورة في الحديث أما النذر الملتزم ابتداء من غير تعليق على شيء كقوله لله علي أن أصلي أو أعتق فليس فيه هذا المعنى ولا يقتضي الحديث ذمه ولا النهي عنه على أن أصحابنا يرون أن الأول وهو نذر المجازاة آكد من الثاني فإنهم يجزمون بصحة الأول ولزوم الوفاء به عند وجود المعلق عليه ولهم في لزوم الوفاء بالثاني خلاف، وإن كان الأصح عندهم لزوم الوفاء به أيضا، وقد يقال: إن هذا القسم الثاني داخل في قوله في الحديث يستخرج به من البخيل وتقديره أن البخيل لا يأتي بالطاعة إلا إذا اتصفت بالوجوب فيكون النذر هو الذي أوجب له فعل الطاعة لتعلق الوجوب به ولو لم يتعلق به الوجوب لم يأت به فيكون النذر المطلق مما يستخرج به من البخيل، وقد أشار إلى ما ذكرته أولا وآخرا الشيخ تقي الدين القشيري في شرح العمدة. وقال الخطابي قوله: وإنما يستخرج به من البخيل دليل على وجوب الوفاء بالنذر.

(السادسة) ذكر النووي في الروضة حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر ولم يذكر لأصحابنا منقولا يوافقه وهو يقتضي أنه لم يقف في ذلك على نقل، وجزم في شرح المهذب بكراهة النذر واستدل له بالحديث ثم حكى عن [ ص: 39 ] الترمذي أنه قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر وقال عبد الله بن المبارك معنى الكراهة في النذر في الطاعة والمعصية، وإن نذر الرجل الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر. انتهى.

فلم ينقل في ذلك كلاما عن أصحابنا وذكر البيهقي في المعرفة أن الشافعي روى في سنن حرملة عن سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة حديث النهي عنه (قلت) وقد قرر الشافعي أن كل ما رواه، وعلمه من الحديث فهو مذهبه وقائل به. وقد نقل الشيخ أبو علي السنجي أن الشافعي نص على كراهة النذر حكاه ابن أبي الدم في شرح الوسيط وجزم به من المالكية القاضي أبو بكر بن العربي وابن الحاجب في مختصره وقال به ابن حزم الظاهري وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي هريرة لا أنذر نذرا أبدا .

واختار ابن أبي الدم أنه ليس بمكروه ولكنه خلاف الأولى وفيه نظر فإن هذا قد ورد فيه نهي مخصوص، ومن يفرق بين المكروه وخلاف الأولى يقول: إن المكروه ما فيه نهي خاص وخلاف الأولى ما ليس فيه نهي خاص وإنما أخذ من عموم، فهذا قول ثان. وفي المسألة قول ثالث: وهو أن النذر مستحب جزم به المتولي والغزالي والرافعي فقالوا إنه قربة، وكذا قال النووي في شرح المهذب حين ذكر أن الأصح أن التلفظ بالنذر عامدا في الصلاة لا يبطلها قال ؛ لأنه مناجاة لله - تعالى - فأشبه الدعاء. وفيه قول رابع: وهو الفرق بين نذر المجازاة فلا يستحب والنذر المبتدأ فيستحب جزم به ابن الرفعة في المطلب في الوكالة فقال: أما كونه قربة فلا شك فيه إذا لم يكن معلقا فإن كان معلقا فلا نقول إنه قربة بل قد يقال بالكراهة. وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: وفي كراهة النذر إشكال على القواعد فإن القاعدة تقتضي أن وسيلة الطاعة طاعة ووسيلة المعصية معصية، ويعظم قبح الوسيلة بحسب عظم المفسدة، وكذلك تعظم فضيلة الوسيلة بحسب عظم المصلحة، ولما كان وسيلة إلى التزام قربة لزم على هذا أن يكون قربة إلا أن ظاهر إطلاق الحديث دل على خلافه، واتباع المنصوص أولى انتهى.

وقال الخطابي هذا باب غريب من العلم وهو أن ينهى عن الشيء أن يفعل حتى إذا فعل وقع واجبا.

[ ص: 40 ] (السابعة) أجاب القائلون باستحباب النذر عن هذا الحديث بأجوبة:

(أحدها) ما قاله ابن الأثير في النهاية أن النهي عنه تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه. قال: ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم. قال: وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يرد قضاء فقال لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فأخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم.

(ثانيها) ما أجاب به المازري فقال: يحتمل أن يكون سبب النهي عن النذر كون الناذر يصير ملتزما به فيأتي به تكلفا بغير نشاط. قال: ويحتمل أن يكون سببه كونه يأتي بالقربة التي التزمها في نذره على صورة المعاوضة للأمر الذي طلبه فينقص أجره وشأن العبادة أن تكون متمحضة لله - تعالى -.

(ثالثها) قال القاضي عياض : يحتمل أن النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النذر يرد القدر ويمنع من حصول المقدر فنهى عنه خوفا من جاهل يعتقد ذلك قال وسياق الحديث يؤيد هذا.

(رابعها) أن النهي محمول على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه جمعا بين الأدلة فإن قوله تعالى وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه يقتضي استحباب النذر والله أعلم .

(الثامنة) إن قلت: دل هذا الحديث على أن النذر لا يرد المقدر، وقد يكون النذر بالصدقة، وقد ورد في الحديث إن الصدقة تقي مصارع السوء وفي حديث آخر الصدقة تدفع ميتة السوء رواه الترمذي من حديث أنس .

(قلت) ليس معنى هذا الحديث أن العبد يقدر له ميتة السوء فتدفعها الصدقة بل الأسباب مقدرة كما أن المسببات مقدرة، فمن قدر له ميتة السوء لا تقدر له الصدقة، ومن لم تقدر له ميتة السوء قدرت له الصدقة. وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي في جوابه: النذر ليس تنجيزا للصدقة وإنما هو كالوعد بها وربما لا يفي بالنذر لعجز أو احترام أجل، وعلى تقدير الوفاء به فالصدقة سبب والأسباب مقدرة أيضا كما ورد في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقي بها [ ص: 41 ] ودواء نتداوى به هل ترد من قدر الله شيئا ؟ قال هي من قدر الله ، فبين أن الأسباب مقدرة كالمسببات والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية