صفحة جزء
وعن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ، ومسجدي والمسجد الأقصى قال سفيان ولا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد سواء ولأحمد من حديث أبي سعيد لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا وفيه شهر بن حوشب وثقه أحمد وابن معين وتكلم فيه غيرهما وعن سعيد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام زاد الشيخان مسجدي هذا وزاد ابن ماجه من حديث جابر وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه وزاد أحمد وابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في هذا .


(الحديث الثاني)

وعن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ، ومسجدي والمسجد الأقصى قال سفيان ولا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد سواء .

(فيه) فوائد:

(الأولى) أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من هذا الوجه من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب بلفظ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وأخرجه مسلم وابن ماجه من رواية معمر عن الزهري لفظ مسلم تشد الرحال ولفظ ابن ماجه لا تشد ورواه مسلم من رواية سلمان الأغر عن أبي هريرة بلفظ إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيلياء ورواه البيهقي في سننه من رواية مسدد ، وعلي بن المديني كلاهما عن ابن عيينة بلفظ لا تشد ثم قال: قال ابن المديني : هكذا حدثنا به سفيان هذه المرة على هذا اللفظ وأكثر لفظه تشد الرحال .

(الثانية) قوله: تشد الرحال بالرفع لفظه خبر، ومعناه الأمر بشدها إلى هذه المساجد الثلاثة.

وقوله في الرواية الأخرى لا تشد هو [ ص: 42 ] خبر أيضا، ومعناه النهي، ومحمله عند جمهور العلماء أنه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها لا أن شد الرحال إلى غيرها محرم ولا مكروه ويدل لذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا وفيه شهر بن حوشب وثقه أحمد وابن معين وتكلم فيه غيرهما وذهب الشيخ أبو محمد إلى ما اقتضاه ظاهره أن شد الرحال إلى غيرها محرم، وأشار القاضي عياض إلى اختياره.

(الثالثة) قول سفيان بن عيينة رحمه الله ولا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد سواء معناه أن اللفظ الذي رواه، وهو قوله تشد الرحال وهذا اللفظ الآخر الذي فيه النفي والإثبات سواء من حيث المعنى فإن الأحكام الشرعية إنما تتلقى من الشارع وإذا أخبر بشد الرحال إلى هذه المساجد الثلاثة ولم يذكر شد الرحال إلى غيرها لم يكن لشد الرحال إلى غيرها فضل ؛ لأن الشرع لم يجئ به وهذا أمر لا يدخله القياس ؛ لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص في هذه دون غيرها.

(الرابعة) فيه فضيلة هذه المساجد الثلاثة، ومزيتها على غيرها وذلك لكونها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولفضل الصلاة فيها.

(الخامسة): نبه بشد الرحل الذي لا يستعمل غالبا إلا في الأسفار على ما هو أخف منه وقصدها لمن هو قريب منها بحيث لا يحتاج في إتيانها إلى شد رحل ودل ذلك على أن إتيانها قربة مع القرب والبعد، وعلى كل حال، ويدل على أنه أريد بشد الرحل السفر قوله في رواية الأغر إنما يسافر. .

(السادسة) استدل به على أن من نذر إتيان المسجد الحرام لحج أو عمرة انعقد نذره ولزمه ذلك ؛ لأنه قربة وشأن القرب لزومها بالنذر.

(السابعة) واستدل به على أن من نذر إتيانه للصلاة فيه أو الاعتكاف به لزمه ذلك وهو كذلك عند مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف وداود والجمهور. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة ومحمد أن من نذر أن يصلي في مكان فصلى في غيره أجزأه.

واحتج الطحاوي لذلك بأن تفضيل الصلاة في المساجد الثلاثة إنما هو في الفريضة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم أفضل صلاة المرء في بيته إلا [ ص: 43 ] المكتوبة ويوافقه ما ذكره ابن حزم الظاهري أنه لو نذر الصلاة في أحد المساجد الثلاثة لم يلزمه الصلاة فيها إلا في الفرض فإن كان نذر صلاة تطوع لم يلزمه شيء.

(الثامنة) واستدل به على أن من نذر إتيانه وأطلق لزمه إتيانه بحج أو عمرة وهذا هو الصحيح عند أصحابنا.

(التاسعة) واستدل به على أنه لو نذر إتيانه بلا حج ولا عمرة انعقد نذره ولزمه إتيانه بحج أو عمرة ولغا قوله بلا حج ولا عمرة ؛ لأن هذا هو المفهوم من إتيانه فليلغ ما يخالفه وهو أحد الوجهين لأصحابنا وصححه النووي .

(العاشرة) استدل به على أنه لو نذر الصلاة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لزمه ذلك وتعين للصلاة فيه وهو أصح قولي الشافعي رحمه الله وهو مذهب المالكية والحنابلة لكنه يخرج عن نذره بالصلاة في المسجد الحرام على أصح الوجهين عند أصحابنا، وبه قال الحنابلة .

(الحادية عشرة) استدل به على أنه لو نذر إتيان مسجد المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزمه ذلك ؛ لأنه من جملة المقاصد التي يؤتى لها ذلك المحل بل هو أعظمها، وقد صرح بذلك القاضي ابن كج من أصحابنا فقال: عندي إذا نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء وجها واحدا ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام بشع عجيب يتضمن منع شد الرحل للزيارة وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في شفاء السقام فشفى صدور المؤمنين، وكان والدي رحمه الله يحكي أنه كان معادلا للشيخ زين الدين عبد الرحيم بن رجب الحنبلي في التوجه إلى بلد الخليل عليه السلام فلما دنا من البلد قال نويت الصلاة في مسجد الخليل ليحترز عن شد الرحل لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية قال فقلت نويت زيارة قبر الخليل عليه السلام ثم قلت له أما أنت فقد خالفت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع وأما أنا فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قال زوروا القبور . أفقال إلا قبور الأنبياء ؟ قال فبهت (قلت) ويدل على أنه ليس المراد إلا اختصاص هذه المساجد بفضل الصلاة فيها وأن ذلك لم يرد في سائر الأسفار قوله في حديث أبي سعيد المتقدم لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير كذا، وكذا فبين أن المراد شد الرحل إلى مسجد [ ص: 44 ] تبتغى فيه الصلاة لا كل سفر والله أعلم .

(الثانية عشرة) استدل به على أنه لو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة فيه لزمه ذلك وهذا أصح قولي الشافعي كما تقدم في مسجد المدينة وبه قال المالكية والحنابلة لكنه يخرج عنه بالصلاة في المسجد الحرام كما تقدم وصحح النووي أيضا أنه يخرج عنه بالصلاة في مسجد المدينة قال: ونص عليه الشافعي في البويطي وبه قال الحنفية والحنابلة وقيل تقوم الصلاة في كل من المسجدين المذكورين مقام الآخر، وقيل لا يقوم أحدهما مقام الآخر ويدل للأول ما في صحيح مسلم عن ميمونة رضي الله عنها أنها أفتت امرأة نذرت الصلاة في بيت المقدس أن تصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم واستدلت بقوله عليه الصلاة والسلام صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة .

(الثالثة عشرة) استدل به على أنه لو نذر إتيان مسجد المدينة أو المسجد الأقصى لزمه ذلك وهو أحد القولين للشافعي حكاه عنه البويطي . والقول الثاني: أنه لا يلزم النذر بل يلغو نص عليه في الأم وهو الأظهر عند العراقيين والروياني وغيرهم فإذا قلنا بانعقاد النذر فهل يلزمه مع الإتيان شيء آخر فيه خلاف لأصحابنا والأصح عندهم نعم ؛ لأن الإتيان المجرد ليس بقربة وحينئذ فالأصح أنه يتخير بين الاعتكاف والصلاة وقيل يتعين الاعتكاف، وقيل تتعين الصلاة. وقال الشيخ أبو علي يكفي في مسجد المدينة أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتوقف فيه إمام الحرمين من جهة أن الزيارة لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه. قال: وقياسه أنه لو تصدق في المسجد أو صام يوما كفاه قال الإمام والظاهر الاكتفاء بالزيارة .

(الرابعة عشرة) استدل به على أنه لو نذر إتيان غيرها من المساجد لصلاة أو غيره لم يلزمه ذلك لتصريحه عليه الصلاة والسلام باختصاص هذه المساجد بشد الرحل إليها وغيرها لا فضل لبعضها على بعض فتكفي صلاته في أي مسجد كان. قال النووي : هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافة إلا محمد بن مسلمة المالكي فقال إذا نذر قصد مسجد قباء لزمه قصده ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكبا، وماشيا وقال الليث بن سعد يلزمه قصد ذلك المسجد أي مسجد كان وقال الحنابلة في أحد الوجهين : يلزمه إذا لم يصل فيه ولا في أحد [ ص: 45 ] المساجد الثلاثة كفارة يمين، وإن كان لا ينعقد نذره وفي وجه آخر لا كفارة عليه وفي الجواهر لابن شاس لو ذكر موضعا غير هذه الثلاثة فإن تعلقت به عبادة تختص به كرباط أو جهاد ناجز لزمه إتيانه .

[ ص: 46 ] (الخامسة عشرة) المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم ولا يختص ذلك بالمكان المعد للصلاة فيه قال أصحابنا لو ذكر الناذر بقعة أخرى من بقاع الحرم كالصفا والمروة ، ومسجد الخيف ، ومنى ، ومزدلفة ، ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقبة زمزم وغيرها فهو كما لو قال المسجد الحرام حتى لو قال آتي دار أبي جهل أو دار الخيزران كان الحكم كذلك ؛ لشمول حرمة الحرم في تنفير الصيد وغيره للجميع وفي معجم الطبراني الأوسط من حديث أبي هريرة مرفوعا لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الخيف ، ومسجد الحرام ، ومسجدي قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : وفي إسناده خيثم بن مروان وهو ضعيف والحديث شاذ لمخالفته للأحاديث الصحيحة إلا أن الحكم بالنسبة إلى مسجد الخيف صحيح لا بالنسبة إلى الحصر قال الغزالي عند ذكر نذر إتيان المساجد فلو قال آتي مسجد الخيف فهو كمسجد الحرام ؛ لأنه من الحرم . انتهى .

(السادسة عشرة) ذكر النووي في شرح مسلم وغيره أن تضعيف الصلاة في مسجد المدينة يختص بمسجده عليه الصلاة والسلام الذي كان في زمنه دون ما أوسع بعده، ومقتضى ذلك أنه لو نذر الصلاة في بقعة من المسجد مما هو زائد على ما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام لم يتعين، وكان كغيره من المساجد وفيه بعد ونظر ظاهر .

(السابعة عشرة) إن قلت لم سمي المسجد الأقصى ولم يكن بعد المسجد الحرام غيره ففي الصحيحين عن أبي ذر قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال ثم المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون سنة قلت علم الله - تعالى - أن مسجد المدينة سيبنى فيكون قاصيا أي بعيدا من مسجد مكة ويكون مسجد بيت القدس أقصى فسمي بذلك باعتبار ما يئول حاله إليه، والله - تعالى - أعلم.

(الثامنة عشرة) قال الخطابي قال بعض أهل العلم لا يصح الاعتكاف إلا في واحد من هذه المساجد الثلاثة، وعليه تأول الخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية