صفحة جزء
وعن سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد أو تناجشوا أو يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيع أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها أو إنائها ولتنكح فإنما رزقها على الله عز وجل .


(الحديث الرابع)

وعن سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد أو تناجشوا أو يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيع أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها ولتنكح فإنما رزقها على الله عز وجل .

(فيه) فوائد:

(الأولى) أخرجه الأئمة الستة من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة .

(الثانية) قوله (أو تناجشوا) وكذا في روايتنا ومقتضاه أن المنهي عنه أحد هذه الأمور وليس كذلك بل كل منها على انفراده منهي عنه فأو فيه بمعنى الواو، والتقدير نهى أن يبيع حاضر لباد، وأن تناجشوا ويدل لذلك لفظ البخاري وغيره من أصحاب الكتب نهى أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا وكذا أو بمعنى الواو في قوله أو يخطب أو يبيع وقوله يخطب ويبيع منصوبان بتقدير أن كما تقدم، والخطبة هنا بكسر الخاء.

وأما الخطبة [ ص: 90 ] في الجمعة ونحوها فبضمها.

وقوله (ولا تسأل المرأة) بكسر اللام على النهي وكسرت اللام لالتقاء الساكنين ويدل له عطفه الأمر عليه في قوله (ولتنكح) على أحد الوجهين اللذين سنحكيهما وقال النووي في شرح مسلم يجوز في تسأل الرفع والكسر الأول على الخبر الذي يراد به النهي وهو المناسب لقوله قبله ولا يخطب ولا يسوم والثاني على النهي الحقيقي.

وقوله (لتكتفئ) هو افتعال من كفأت الإناء إذا قلبته، وأفرغت ما فيه.

وأما أكفأت الإناء فهو بمعنى أملته هذا هو المشهور فيهما، وقال الكسائي : أكفأت الإناء كببته، وأكفأته أملته.

(الثالثة) فيه النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه وهذا النهي للتحريم كما قاله الجمهور. وقال الخطابي : هو نهي تأديب وليس بنهي تحريم يبطل العقد وهو قول أكثر الفقهاء. (قلت) كأن الخطابي فهم من كون العقد لا يبطل عند أكثر الفقهاء أن النهي عندهم ليس للتحريم، وليس كذلك بل هو عندهم للتحريم، وإن لم يبطل العقد وقد صرح بهذا الفقهاء من أهل المذاهب المتنوعة، وحكى النووي في شرح مسلم الإجماع على التحريم بشروطه.

(الرابعة) قال الشافعية والحنابلة : محل التحريم ما إذا صرح للخاطب بالإجابة بأن يقول أجبتك إلى ذلك أو يأذن لوليها في أن يزوجها إياه وهي معتبرة الإذن فلو لم يقع التصريح بالإجابة لكن وجد تعريض كقولها لا رغبة عنك ففيه قولان للشافعي وأحمد قال الشافعي في القديم: تحرم الخطبة، وقال في الجديد: تجوز. وحكى والدي - رحمه الله - في شرح الترمذي عن مالك وأبي حنيفة تحريم الخطبة عند التعريض أيضا، وقال النووي في شرح مسلم بعد ذكره قول الشافعي عند التعريض وتصحيح التحريم: واستدلوا لما ذكرناه من أن التحريم إنما هو إذا حصلت الإجابة بحديث فاطمة بنت قيس فإنها قالت خطبني معاوية ، وأبو جهم فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض بل خطبها لأسامة قال النووي : وقد يعترض على هذا الدليل فيقال لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول.

وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بأسامة لا أنه خطب له. انتهى.

وقال والدي - رحمه الله - في شرح الترمذي : وفيه نظر، وقال قبل ذلك لعله لما ذكر لها ما في أبي جهم ومعاوية مما يرغب عنهما رغبت عنهما [ ص: 91 ] فخطبها حينئذ على أسامة ، وقال أيضا: في الاستدلال به نظر ؛ لأنه لم ينقل أن واحدا من أبي الجهم ومعاوية أجيب لا تصريحا ولا تعريضا. (قلت) والشافعي - رحمه الله - لم يذكر هذا الاستدلال في صورة التعريض، وإنما ذكره عند عدم الرضا والركون فقال الترمذي في جامعه قال الشافعي : معنى هذا الحديث لا يخطب الرجل على خطبة أخيه هذا عندنا إذا خطب الرجل المرأة فرضيت به وركنت إليه فليس لأحد أن يخطب على خطبته. وأما قبل أن يعلم رضاها أو ركونها إليه فلا بأس أن يخطبها والحجة في ذلك حديث فاطمة بنت قيس فذكره ثم قال فمعنى هذا الحديث عندنا - والله أعلم - أن فاطمة لم تخبره برضاها بواحد منهما، ولو أخبرته لم يشر عليها بغير الذي ذكرت. انتهى.

قال أصحابنا: ولو ردته فللغير خطبتها قطعا ولو لم يوجد إجابة ولا رد فقطع بعض أصحابنا بالجواز، وأجرى بعضهم فيه القولين المتقدمين قالوا ويجوز الهجوم على خطبة من لم يدر أخطبت أم لا ؛ ومن لم يدر أجيب خاطبها أم رد ؛ لأن الأصل الإباحة وقال الحنابلة : إن لم يعلم أجيب أم لا فعلى وجهين ؛ قال أصحابنا: والمعتبر رد الولي، وإجابته إن كانت مجبرة، وإلا فردها، وإجابتها ؛ وفي الأمة رد السيد، وإجابته وفي المجنونة رد السلطان، وإجابته. وقال شيخنا الإمام جمال الدين الإسنوي في المهمات هذا الإطلاق غير مستقيم فإنه إذا كان الخاطب غير كفء يكون النكاح متوقفا على رضى الولي والمرأة معا وحينئذ فيعتبر في تحريم الخطبة إجابتهما معا وفي الجواز ردهما أو رد أحدهما. قال: وأيضا فينبغي فيما إذا كانت بكرا أن يكون الاعتبار بالولي مخرجا على الخلاف فيما إذا عينت كفؤا وعين المجبر كفؤا آخر هل المجاب تعيينها أم تعيينه وهذا الذي ذكروه في اعتبار تصريح الإجابة هو في الثيب أما البكر فسكوتها كصريح إذن الثيب كما نص عليه الشافعي في الأم قال: فوجدنا الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه إذا كانت المرأة راضية قال ورضاها إذا كانت ثيبا أن تأذن في النكاح بنعم، وإن كانت بكرا أن تسكت فيكون ذلك إذنا. انتهى.

وحيث اشترطنا التصريح بالإجابة فلا بد معه من الإذن للولي في زواجها له فإن لم تأذن في ذلك لم تحرم الخطبة كما نص عليه الشافعي في الرسالة [ ص: 92 ] في باب النهي عن معنى يدل عليه معنى في حديث غيره، وحكاه عنه الخطابي واستشكله القرطبي في المفهم فقال: وهذا فيه بعد فإنه حمل العموم الذي قصد به تقعيد قاعدة على صورة نادرة قال: وهذا مثل ما أنكره الشافعي من حمل قوله لا نكاح إلا بولي على المكاتبة. (قلت): ليس مثله ولم يحمل الشافعي النهي فيما نحن فيه على صورة نادرة بل هو على عمومه في كل مخطوبة لكن إذا لم تأذن في تزويجها فليس بيد الخاطب شيء يتمسك به، وزاد بعض المالكية على الرضا بالزوج تسمية المهر وهذا لا دليل عليه والعقد صحيح من غير تسمية مهر.

(الخامسة) ومحل التحريم أيضا إذا لم يأذن الخاطب لغيره في الخطبة فإن أذن ارتفع التحريم ؛ لأن المنع كان لحقه وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر التصريح بذلك بقوله إلا أن يأذن له لكن يبقى النظر في أنه إذا أذن لشخص مخصوص في الخطبة هل لغيره الخطبة أيضا ؛ لأن الإذن لشخص يدل على الإعراض عن الخطبة إذ لا يمكن تزويج المرأة لخاطبين أو ليس لغيره الخطبة إذ لم يؤذن له وزوال المنع إنما كان للإذن هذا محتمل والأرجح الأول.

(السادسة) ومحل التحريم أيضا إذا لم يترك الخاطب الخطبة ويعرض عنها فإن ترك جاز لغيره الخطبة، وإن لم يأذن له وفي صحيح البخاري من رواية الأعرج عن أبي هريرة حتى ينكح أو يترك وفي حديث مسلم من حديث عقبة بن عامر المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر وقوله حتى يذر يعود للجملتين معا كما هو مقتضى قاعدة الشافعي - رحمه الله - وقد ورد التصريح به في سنن البيهقي قال فيه: حتى يذر بعد كل من الجملتين.

(السابعة) ومحل التحريم أيضا أن تكون الخطبة الأولى جائزة فإن كانت محرمة كالواقعة في العدة لم تحرم الخطبة عليها كما صرح به الروياني في البحر.

(الثامنة) ومحل التحريم أيضا إذا لم تأذن المرأة لوليها أن يزوجها ممن يشاء فإن أذنت له كذلك صح وحل لكل أحد أن يخطبها على خطبة الغير كما نقله الروياني في البحر عن نص الشافعي في الأم ولك أن تقول إن كان الضمير في قوله ممن يشاء عائدا على الولي فينبغي إذا أجاب الولي الخاطب الأول أن يحرم [ ص: 93 ] على غيره الخطبة، وإن كان عائدا على الخاطب فإذا خطبها شخص فقد شاء تزويجها وقد أذنت في تزويجها ممن يشاء هو تزويجها فيجب على الولي إجابته ويحرم على غيره خطبتها ؛ لأنها قد أجابته بالوصف، وإن لم تجبه بالتعيين والله أعلم .

(التاسعة) قال الخطابي وغيره ظاهره اختصاص التحريم بما إذا كان الخاطب مسلما فإن كان كافرا فلا تحريم وبه قال الأوزاعي وحكاه الرافعي عن أبي عبيد بن حربويه قال والدي - رحمه الله - في شرح الترمذي : ويقوي ذلك قوله في أول حديث عقبة بن عامر عند مسلم المؤمن أخو المؤمن فهو ظاهر في اختصاص ذلك بخطبة المسلم. انتهى.

وقال الجمهور: تحرم الخطبة على خطبة الكافر أيضا قال النووي ولهم أن يجيبوا عن الحديث بأن التقييد بأخيه خرج على الغالب فلا يكون له مفهوم يعمل به كما في قوله تعالى - ولا تقتلوا أولادكم وقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم ونظائره .

(العاشرة) ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون الخاطب الأول فاسقا أو لا وهذا هو الصحيح الذي تقتضيه الأحاديث وعمومها وذهب ابن القاسم صاحب مالك إلى تجويز الخطبة على خطبة الفاسق واختاره ابن العربي المالكي، وقال: لا ينبغي أن يختلف في هذا. ا هـ. قال والدي - رحمه الله -: وهو مردود ؛ لعموم الحديث إذ الفسق لا يخرج عن الإيمان والإسلام على مذهب أهل السنة فلا يخرج بذلك عن كونه خطب على خطبة أخيه المسلم .

(الحادية عشرة) حيث منعنا الخطبة على الخطبة فارتكب النهي وخطب وتزوج أثم بفعله وصح النكاح ولم يفسخ هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال داود : يفسخ النكاح لأن النهي يقتضي الفساد. وعن مالك روايتان كالمذهبين وقال جماعة من أصحاب مالك : يفسخ قبل الدخول لا بعده وهو رواية عن مالك . واحتجاج القائل بالبطلان بأن النهي يقتضي الفساد مردود ؛ لأن المنهي عنه الخطبة والخطبة ليست شرطا في صحة النكاح بحيث إذا فسدت فسد النكاح لأنه لو تزوج من غير تقدم خطبة جاز فتحريم الخطبة لا يقتضي فساد النكاح، والله أعلم .

(الثانية عشرة) الحديث إنما ورد في النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه وينبغي أن يلحق به خطبة المرأة على خطبة امرأة أخرى بأن ترغب امرأة في تزويج رجل من [ ص: 94 ] أهل الفضل وتخطبه فيركن إلى التزوج بها فتجيء امرأة أخرى فتخطبه وقد ذكر ذلك شيخنا الإمام جمال الدين الإسنوي في المهمات فقال: نصوا على استحباب خطبة أهل الفضل من الرجال فإذا وقع ذلك فلا شك أنه يأتي في التحريم ما سبق في المرأة. انتهى.

(فإن قلت) الفرق بينهما أنه لا يمكن تزويج المرأة لرجلين ويمكن تزويج الرجل بامرأتين (قلت) الصورة فيما إذا لم يكن عزم الرجل أن يتزوج إلا بامرأة واحدة بحيث إن عرضت الثانية عليه نفسها يصرفه عن التزوج بالأولى لتميزها عليها في الأوصاف المقتضية للرغبة.

(الثالثة عشرة) قال النووي في شرح مسلم : معنى هذا الحديث يعني قوله (ولا تسأل المرأة طلاق أختها) نهى المرأة الأجنبية أن تسأل الزوج طلاق زوجته، وأن ينكحها ويصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ونحوها ما كان للمطلقة فعبر عن ذلك باكتفاء ما في الصحفة مجازا والمراد بأختها غيرها سواء كانت أختها من النسب أو أختها في الإسلام أو كافرة. انتهى.

وحمل ابن عبد البر الأخت هنا على الضرة فقال فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به. انتهى.

ورده والدي - رحمه الله - في شرح الترمذي بقوله في آخر الحديث ولتنكح فإنها في هذه الصورة ناكحة وحمل الشيخ محب الدين الطبري الأخت على الأخت في الدين فقال أراد أختها من الدين فإنها من النسب لا تجتمع معها قال والدي : ويدل عليه ما زاده ابن حبان في صحيحه في الحديث فإن المسلمة أخت المسلمة وحمل الشيخ محب الدين المذكور الحديث على اشتراط ذلك في النكاح فذكر الحديث في أحكامه بلفظ (نهى أن تشترط المرأة طلاق) وترجم عليه (ذكر ما نهي عنه من الشروط) وعزاه للصحيحين. قال والدي - رحمه الله -: وليس هذا لفظه عند واحد منهما، وإنما ذكره البيهقي بلفظ لا ينبغي لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفئ إناءها ثم قال البيهقي رواه البخاري في الصحيح. قال والدي - رحمه الله -: وإنما يريد البيهقي أصل الحديث لا موافقة اللفظ كما هو معروف في علوم الحديث قال: نعم ترجم عليه البخاري في كتاب النكاح (باب الشروط التي لا تحل في النكاح) وذكر قول ابن مسعود موقوفا (لا تشترط المرأة طلاق أختها) ثم ذكر حديث [ ص: 95 ] أبي هريرة بلفظ لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها .

(الرابعة عشرة) ينبغي أن يعود هنا الخلاف المتقدم في قوله لا يخطب الرجل على خطبة أخيه فعلى مذهب الأوزاعي وابن حربويه لا يحرم أن تسأل المسلمة طلاق الكافرة وعلى مذهب الجمهور لا فرق وقد تقدم عن النووي أنه سوى في هذا الحكم بين المسلمة والكافرة، وهو موافق لما نقلناه عن مقتضى مذهب الجمهور.

(الخامسة عشرة) وينبغي على مذهب ابن القاسم أن يستثنى ما إذا كان المسئول طلاقها فاسقة وعلى مذهب الجمهور لا فرق كما تقدم والله أعلم.

(السادسة عشرة) خرج بقوله لتكتفئ ما في صحفتها ما إذا سألت طلاقها لمعنى آخر كريبة فيها لا ينبغي ؛ لأجلها أن تقيم مع الزوج أو لضرر يحصل لها من الزوج أو يحصل للزوج منها وقد يكون سؤالها ذلك بعوض فيكون خلعا مع أجنبي.

(السابعة عشرة) قوله (ولتنكح) روي بالجزم على الأمر وحينئذ فيجوز في اللازم الإسكان والكسر وروي بالنصب على أنه معطوف على قوله لتكستفئ فيكون تعليلا لسؤالها طلاق أختها أي تفعل ذلك لتكتفئ ما في إنائها ولتنكح زوجها وحينئذ فيتعين في اللازم الكسر.

(الثامنة عشرة) على الأول وهو الأمر يحتمل أن يكون المراد ولتنكح ذلك الرجل مع وجود الضرة وحينئذ فيمتنع معه أن يكون المراد الأخت من النسب كما تقدم عن المحب الطبري ويرد ذلك على النووي في إدخاله الأخت من النسب تحت اللفظ ولعله لا يرى هذا الاحتمال ويحتمل أن يكون المراد ولتنكح غيره وتعرض عن نكاح هذا الرجل ويحتمل أن المراد الأعم من الاحتمالين أي ولتنكح من تيسر لها هذا الرجل أو غيره مع انكفافها عن سؤال الطلاق وعلى هذا الاحتمال الثالث فيمتنع أيضا إرادة أخت النسب والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية