صفحة جزء
وعن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة وفي رواية لمسلم لا نورث ما تركنا صدقة .


الحديث الثالث

عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة .

(فيه) فوائد:

(الأولى) أخرجه الشيخان ، وأبو داود من طريق مالك ، ومسلم وحده من طريق سفيان بن عيينة والترمذي في الشمائل من طريق سفيان الثوري ثلاثتهم [ ص: 239 ] عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وفي رواية الترمذي دينارا ولا درعا وفي رواية يحيى بن يحيى الأندلسي عن مالك دنانير بلفظ الجمع قال ابن عبد البر وتابعه ابن كنانة وقال سائر رواة الموطإ دينارا وهو المحفوظ في هذا الحديث وهو الصواب ؛ لأن الواحد في هذا الموضع أعم عند أهل اللغة ؛ لأنه يقتضي الجنس والقليل والكثير ولفظ رواية ابن عيينة ميراثا حكاه ابن عبد البر ولم يسق مسلم لفظه. قال: إنه نحو رواية مالك ورواه مسلم من رواية الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ لا نورث ما تركنا صدقة .

(الثانية) قوله لا تقتسم قال ابن عبد البر الرواية فيه بالرفع على الخبر أي ليس يقسم ؛ لأني لا أخلف دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا وهذا معنى حديث مسروق عن عائشة قلت أشار إلى قولها رضي الله عنها ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء رواه مسلم وغيره، وكذا نقل النووي عن العلماء أنه ليس المراد بهذا اللفظ النهي ؛ لأنه إنما ينهى عما يمكن وقوعه وإرثه صلى الله عليه وسلم غير ممكن، وإنما هو بمعنى الإخبار ومعناه لا يقتسمون شيئا ؛ لأني لا أورث.

(الثالثة) ذكر الدينار تنبيه على ما سواه كما قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره وقال تعالى ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك وليس المراد التقييد به حتى إنهم يقتسمون ما هو أقل منه هذا ما لا شك فيه .

(الرابعة) فيه وجوب نفقة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته من متروكاته، وهو كذلك فقيل: إن سببه أنهن محبوسات عن الأزواج بسببه وقيل لعظم حقهن في بيت المال لفضلهن وقدم هجرتهن وكونهن أمهات المؤمنين وليس ذلك لإرثهن منه، ولذلك اختصصن بمساكنهن مدة حياتهن ولا يرثها ورثتهن بعدهن .

(الخامسة) اختلف في المراد بالعامل في قوله ومؤنة عاملي فالمشهور أنه القائم على هذه الصدقات، والناظر فيها وعليه بوب البخاري في صحيحه وقال ابن عبد البر يقولون أراد بعامله خادمه وقيمه ووكيله، وأجيره ونحو هذا. انتهى. وقيل هو كل عامل للمسلمين من خليفة وغيره ؛ لأنه عامل للنبي صلى الله عليه وسلم ونائب عنه في أمته.

(السادسة) قال الطبري فيه: إن من كان مشتغلا من الأعمال [ ص: 240 ] بما فيه لله بر وللعبد عليه من الله أجر أنه يجوز أخذ الرزق على اشتغاله به إذا كان في قيامه سقوط مؤنة عن جماعة من المسلمين أو عن كافتهم. وفساد قول من حرم القسام أخذ الأجور على أعمالهم والمؤذنين أخذ الأرزاق على تأديتهم والمعلمين على تعليمهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لولي الأمر بعده فيما كان أفاء الله عليه مؤنته وإنما جعل ذلك لاشتغاله فبان أن كل قيم بأمر من أمور المسلمين مما يعمهم نفعه سبيله سبيل عامل النبي صلى الله عليه وسلم في أن له المؤنة في بيت مال المسلمين والكفاية ما دام مشتغلا به، وذلك كالعلماء والقضاة والأمراء وسائر أهل الشغل بمنافع الإسلام. انتهى .

(السابعة) فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وحكى ابن عبد البر وغيره عن بعض أهل البصرة منهم ابن علية أنه إنما لم يورث ؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته قال ابن عبد البر وسائر علماء المسلمين على القول الأول وهو الذي يقتضيه سياق الحديث قلت والقولان متفقان على أنه عليه الصلاة والسلام لم يورث، وإنما التفاوت بينهما أن الأول جعل إرثه مستحيلا لا مقتضى له، والثاني جعله ممكنا ؛ لأنه منع منه عدم المال المخلف عنه ؛ لأن الكل صدقة كما يقف الإنسان جميع ما يملكه أو يتصدق به فيموت ولا ملك له فلا يورث ؛ لعدم ما يورث عنه، وإن كان يورث لو كان له مال والله أعلم.

قال ابن عبد البر : وأما الروافض فليس قولهم مما يشتغل به، ولا يحكى مثله لما فيه من الطعن على السلف والمخالفة لسبيل المؤمنين.

وحكى الخطابي بإسناده عن ابن الأعرابي قال كان أول خطبة خطبها أبو العباس السفاح في قرية يقال لها العباسية بالأنبار فلما افتتح الكلام وصار إلى ذكر الشهادة من الخطبة قام رجل من آل أبي طالب في عنقه مصحف فقال: أذكرك الله الذي ذكرته إلا أنصفتني من خصمي وحكمت بيني وبينه بما في هذا المصحف. قال له: ومن ظلمك ؟. قال: أبو بكر الذي منع فاطمة فدك فقال له وهل كان بعده أحد ؟ قال: نعم. قال من ؟ قال: عمر . وأقام على ظلمكم قال: نعم. قال: وهل كان بعده أحد ؟ قال نعم. قال: من ؟. قال: عثمان . قال: وأقام على ظلمكم. قال: نعم قال: وهل كان بعده [ ص: 241 ] أحد ؟ قال: نعم. قال من ؟ قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . قال، وأقام على ظلمكم. فأسكت الرجل وجعل يلتفت إلى ما وراءه يطلب مخلصا فقال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أنه أول مقام قمته ثم إني لم أكن تقدمت إليك في هذا قبل لأخذت الذي فيه عيناك اقعد، وأقبل على الخطبة.

(الثامنة) لا يختص ذلك بنبينا عليه الصلاة والسلام بل سائر الأنبياء عليهم السلام كذلك في أنهم لا يورثون ويدل لذلك قوله في الرواية التي نقلناها في الفائدة الأولى من صحيح مسلم لا نورث فجمع الضمير باعتبار مشاركة بقية الأنبياء له في ذلك، وقد صرح به في قوله في حديث عمر رضي الله عنه إنا معاشر الأنبياء لا نورث رواه النسائي في سننه. وورد هذا اللفظ من حديث أبي بكر الصديق ، وأبي هريرة رواهما ابن عبد البر

وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف إلا الحسن البصري فإنه قد حكي عنه أن ذلك مختص بنبينا صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى يرثني ويرث من آل يعقوب وزعم أن المراد وراثة المال. قال: ولو أراد وراثة النبوة لم يقل وإني خفت الموالي من ورائي إذ لا يخاف الموالي على النبوة ولقوله تعالى وورث سليمان داود والحق ما قاله الجمهور والمراد بقصة زكريا وداود وراثة النبوة وليس المراد حقيقة الإرث بل قيامه مقامه وحلوله مكانه، ولو أريد وراثة المال لم يكن في الإخبار بإرث سليمان لداود كبير فائدة لما علم من إرث الأولاد لأموال آبائهم بخلاف الملك والعلم والنبوة.

(التاسعة) قال النووي : قال العلماء الحكمة في أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورثون أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك ولئلا يظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثهم فيهلك الظان وينفر الناس عنهم. قلت: ولأنهم أحياء ولهذا وجبت نفقة زوجاته عليه الصلاة والسلام بعد موته ؛ ولأنهم لعظم شأنهم لا تكون نعم الله عليهم إلا عائدة على أخراهم، ولا يسلبون منفعة ما أنعم به عليهم ولو ورثوا لسلبوا منفعة ما ورثوه وكان الانتفاع به إنما هو لورثتهم لا لهم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله وقال أبو بكر إنما المال الآن للوارث وهذا [ ص: 242 ] معنى حسن ولم أر من تعرض له.

(العاشرة) هذه الرواية صريحة في الرد على بعض جهلة الشيعة حيث قال في الرواية التي سقناها من مسلم ما تركنا صدقة أنه بالنصب على أن ما نافية وهو غلط قبيح بل هو بالرفع وما موصولة وروايتنا صريحة في ذلك لقوله فيها فهو صدقة .

(الحادية عشرة) الحديث متناول للحقوق أيضا، وأشار الإمام الغزالي إلى أنه عليه الصلاة والسلام تورث عنه حقوقه فإنهما قالا فيما لو عفا واحد من بني أعمامه عن قاذفه ينبغي أن يسقط عنه حد القذف. أو نقول: هم لا ينحصرون فهو كقذف ميت ليست له ورثة خاصة لكن الرافعي توقف في ذلك فقال يجوز أن حد قذفه لا يورث كما لا يورث ما تركه. انتهى. وهذا هو الحق وهو مقتضى هذا الحديث .

(الثانية عشرة) قال ابن عبد البر : فيه دليل على صحة ما ذهب إليه فقهاء أهل الحجاز ، وأهل الحديث من تجويز الأوقاف، وأن للرجل أن يحبس ماله على سبيل من سبل الخير يجري عليه بعد وفاته.

(قلت) حكى إمام الحرمين فيما تركه عليه الصلاة والسلام وجهين:

(أحدهما) أنه باق على ملكه ينفق منه على أهله كما ينفق في حياته قال وهذا هو الصحيح.

(والثاني) أن سبيل ما خلفه سبيل الصدقات وبهذا قطع أبو العباس الروياني في الجرجانيات ثم حكى وجهين في أنه هل يصير وقفا على ورثته، وأنه إذا صار وقفا هو الواقف لقوله عليه الصلاة والسلام ما تركنا صدقة وجهان. وقال النووي : كل هذا ضعيف والصواب الجزم بأنه زال ملكه، وأن ما تركه فهو صدقة على المسلمين لا تختص به الورثة، وكيف يصح غير ما ذكرته مع قوله صلى الله عليه وسلم لا نورث ما تركناه صدقة فهذا نص على زوال الملك، والله أعلم. انتهى.

وقد ظهر أن الاستدلال به على صحة الوقف احتمال من احتمالات والله أعلم .

(الثالثة عشرة) قال ابن عبد البر أيضا: وفيه دلالة على صحة اتخاذ الأموال واكتساب الصناع وما يسع الإنسان لنفسه وعماله، وأهليهم ويواتيهم وما يفضل عن الكفاية وفيه رد على الصوفية ومن ذهب مذهبهم في قطع الاكتساب المباح .

التالي السابق


الخدمات العلمية