صفحة جزء
باب الوليمة) عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها ، وفي رواية لمسلم إلى وليمة عرس فليجب ، وفي رواية له إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه وفي أخرى من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب وزاد في أخرى فإن كان صائما فليدع لهم وزاد الشيخان في رواية قال وكان عبد الله يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو صائم .

، ولمسلم من حديث جابر إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم ، وإن شاء ترك ، ولابن ماجه في هذا الحديث من دعي إلى طعام ، وهو صائم الحديث


[ ص: 69 ] (باب الوليمة)

عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها (فيه) فوائد :

(الأولى) أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من هذا الوجه من طريق مالك ، وأخرجه مسلم ، وابن ماجه من طريق عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر بلفظ إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب ، وأخرجه مسلم أيضا من طريق خالد بن الحارث عن عبيد الله بن عمر بلفظ إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجب . قال خالد بن الحارث فإذا عبيد الله ينزله على العرس وأخرجه أبو داود من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة عن عبيد الله بن عمر بمعنى رواية مالك زاد فإن كان مفطرا فليطعم ، وإن كان صائما فليدع ، وأخرجه مسلم [ ص: 70 ] ، وأبو داود من طريق أيوب السختياني بلفظ إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه من طريق محمد بن الوليد الزبيدي بلفظ من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب لفظ مسلم .

وقال أبو داود إنه بمعنى لفظ أيوب ، وأخرجه مسلم من طريق عمر بن محمد بلفظ إن دعيتم إلى كراع فأجيبوا فإن كان صائما فليدع لهم ، وأخرجه البخاري ، ومسلم من طريق موسى بن عقبة بلفظ أجيبوا هذه الدعوة التي دعيتم لها ، وكان عبد الله يأتي الدعوة في العرس ، وغير العرس ، وهو صائم ، وأخرجه مسلم ، والترمذي من طريق إسماعيل بن أمية بلفظ ائتوا الدعوة إذا دعيتم ، وأخرجه أبو داود من طريق أبان بن طارق ، وهو مجهول بلفظ من دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله ، ومن دخل على غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا كلهم ، وهم ثمانية عن نافع عن ابن عمر .

(الثانية) اختلف العلماء وأهل اللغة في الوليمة فالمشهور اختصاصها بطعام العرس ، وممن ذكر ذلك الجوهري في الصحاح ، وابن الأثير في النهاية ، وحكاه ابن عبد البر عن صاحب العين ، وقال في المحكم الوليمة طعام العرس والأملاك ثم قال : وقيل هي كل طعام صنع لعرس وغيره ، وقال في المشارق الوليمة طعام النكاح ، وقيل طعام الأملاك ، وقيل هو طعام العرس خاصة .

وقال الشافعي ، وأصحابه تقع الوليمة على كل دعوة تتخذ لسرور حادث من نكاح أو ختان أو غيرهما لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح ، وتقيد في غيره فيقال وليمة الختان وغيره ، ويقال لدعوة الختان إعذار بعين مهملة ، وذال معجمة ، ولدعوة الولادة عقيقة ، ولسلامة المرأة من الولادة خرس بضم الخاء المعجمة وإسكان الراء وبالسين المهملتين ، وقيل الخرس طعام الولادة ، ولقدوم المسافر نقيعة بالنون من النقع ، وهو الغبار ، ولإحداث البناء وكيرة من الوكر ، وهو المأوى والمستقر ، ولما يتخذ لمصيبة وضيمة بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة ، ولما يتخذ بلا سبب مأدبة بضم الدال المهملة وفتحها .

(الثالثة) فيه الأمر بإجابة الداعي إلى الوليمة وحضورها ، وهذا ثابت في وليمة النكاح بلا شك ، وهل هو أمر إيجاب أو استحباب اختلف العلماء فيه فالمشهور عند الشافعية والحنابلة أن الإجابة إليها فرض عين ، ونص عليه مالك ، وقال به أهل الظاهر ، ونقل [ ص: 71 ] القاضي عياض الاتفاق عليه وابن عبد البر الإجماع عليه ، وقيل مستحبة قاله بعض الشافعية والحنابلة ، وقال أبو الحسن من المالكية إنه المذهب ، وصرح صاحب الهداية من الحنفية بأن الإجابة سنة لكنه استدل بقوله صلى الله عليه وسلم من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم ، وشبهها فيما إذا كان هناك غناء ، ونحوه بصلاة الجنازة واجبة الإقامة ، وإن حضرتها نياحة ، وذلك يفهم الوجوب ، وقال بعض الشافعية والحنابلة إجابتها فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين ، وحكى الشيخ تقي الدين في شرح الإلمام عن بعضهم أنه خص الوجهين في أن إجابتها فرض عين أو كفاية بما إذا دعا الجميع ، وقال لو خص كل واحد بالدعوة تعينت الإجابة على الكل .

(الرابعة) قال أصحابنا الشافعية إنما تجب الإجابة أو تستحب بشروط :

(أحدها) أن يعم عشيرته وجيرانه أو أهل حرفته أغنياءهم وفقراءهم دون ما إذا خص الأغنياء . وحكي عن ابن مسعود قال أبو العباس القرطبي ، ونحوه نحا ابن حبيب من أصحابنا ، وظاهر كلام أبي هريرة وجوب الإجابة (ثانيها) أن يخصه بالدعوة بنفسه أو بإرسال شخص إليه فأما إذا قال بنفسه أو بوكيله ليحضر من أراد أو قال لشخص احضر ، وأحضر معك من شئت فقال لغيره احضر فلا تجب الإجابة ، ولا تستحب ، وكذا اعتبر المالكية والحنابلة في وجوب الإجابة أن يدعو معينا قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام ، ولا يخلو من احتمال لو قيل بخلافه انتهى . وقد يقال هذا معلوم من قولهم دعي فإن هذا لم يدع ، وإنما مكن من الحضور ، وذكر الروياني في البحر أنه لو قال إن رأيت أن تجملني لزمته الإجابة .

(ثالثها) أن لا يكون إحضاره لخوف منه أو طمع في جاهه أو لتعاونه على باطل بل يكون للتقرب والتودد .

(رابعها) أن يكون الداعي له مسلما فلو دعاه ذمي فهل هو كالمسلم أم لا تجب قطعا ، طريقان أصحهما الثاني ، ولا يكون الاستحباب في إجابته كالاستحباب في دعوة المسلم لأنه قد يرغب عن طعامه لنجاسته وتصرفه الفاسد ، وكذا اعتبر الحنابلة في وجوب الإجابة أن يكون الداعي مسلما ، ويدل لذلك قوله في رواية إذا دعا أحدكم أخاه (خامسها) أن يدعى في اليوم الأول كذا [ ص: 72 ] ادعى النووي في الروضة القطع به ، وليس كذلك فقد حكى ابن يونس في التعجيز وجهين في وجوب الإجابة في اليوم الثاني ، وقال في شرحه أصحهما الوجوب ، وبه قطع الجرجاني لوصف النبي صلى الله عليه وسلم .

(الثاني) بأنه معروف ، واعتبر الحنابلة أيضا في وجوب الإجابة أن يكون في اليوم الأول ، وحجتهم في ذلك حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام أول يوم حق ، وطعام يوم الثاني سنة ، وطعام الثالث سمعة ، ومن سمع سمع الله به رواه الترمذي ، وقال لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث زياد بن عبد الله ، وهو كثير الغرائب والمناكير ، وسمعت محمد بن إسماعيل يذكر عن محمد بن عقبة قال قال وكيع . زياد بن عبد الله مع شرفه لا يكذب في الحديث ، ورواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ الوليمة أول يوم حق ، والثاني معروف ، والثالث رياء وسمعة ، وضعفه البيهقي ، وفيه عبد الملك بن حسين ، وهو ضعيف جدا ، ورواه بهذا اللفظ الثاني أبو داود من رواية الحسن بن عبد الله بن عثمان الثقفي عن رجل أعور من ثقيف كان يقال له ( معروف ) أي يثني عليه خيرا إن لم يكن اسمه زهير بن عثمان فلا أدري ما اسمه ، ورواه الطبراني من حديث زهير من غير شك .

وقال البخاري لا يصح إسناده ، ولا يعرف لزهير صحبة ، وأخرجه النسائي من حديث الحسن مرسلا لم يذكر عبد الله بن عثمان ، ولا زهيرا ، وأخرجه باللفظ الثاني أيضا ابن عدي في الكامل ، والبيهقي في سننه من طريقه من حديث أنس فقال البيهقي ليس هذا بقوي ، بكر بن خنيس تكلموا فيه انتهى .

وقد عرفت بما بسطناه ضعف جميع هذه الطرق ، ولذلك قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي إنه لا يصح من جميع طرقه ، وقال البخاري في تاريخه الكبير بعدما تقدم عنه في حديث زهير أنه لا يصح إسناده ، ولا تعرف له صحبة ، وقال ابن عمر ، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم . إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب ، ولم يخص ثلاثة أيام ولا غيرها قال ، وهذا أصح ثم ذكر حديث حفصة أن سيرين عرس بالمدينة فأولم ودعا الناس سبعا ، وكان فيمن دعا أبي بن كعب فجاء ، وهو صائم فدعا لهم بخير ، وانصرف، وأشار لذلك في صحيحه بقوله باب الحق إجابة الوليمة والدعوة ، ومن أولم سبعة أيام ونحوه ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم يوما ، ولا يومين ، وروى البيهقي في سننه قصة [ ص: 73 ] سيرين هذه قال القاضي عياض ، واستحب أصحابنا لأهل السعة كونها أسبوعا ثم قال ، وذلك إذا دعا في كل يوم من لم يدع قبله ، ولم يكرر عليهم ، ويوافق ذلك ظاهر عبارة العمراني من أصحابنا في البيان أنه إنما تكره الإجابة إذا كان المدعو في اليوم الثالث هو المدعو في اليوم الأول ، وكذا صوره الروياني في البحر بما إذا كانت الوليمة ثلاثة أيام فدعاه في الأيام الثلاثة لكن ظاهر عبارة التنبيه أنه لا فرق في الكراهة بين أن يكون هو المدعو في اليوم الأول أم لا ، وقال الشيخ الإمام تقي الدين السبكي لا تصريح في كلام أصحابنا بذلك ، وإنما رأيت للمالكية فيه خلافا ، واستبعد شيخنا الشيخ شهاب الدين بن النقيب ما قدمته عن البيان فإن الفاعل لذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالرياء فلا يساعد عليه .

(سادسها) أن لا يعتذر المدعو إلى صاحب الدعوة فيرضى بتخلفه فإن وجد ذلك زال الوجوب، وارتفعت كراهة التخلف قال والدي رحمه الله ، وهو قياس حقوق العباد ما لم يكن فيه شائبة حق الله تعالى كرد السلام فإنه لا يسقط وجوب الرد برضى المسلم بتركه ، وقد يظهر الرضى ، ويورث مع ذلك وحشة انتهى فلو غلب على ظنه أن الداعي لا يتألم بانقطاعه ففيه تردد حكاه القاضي مجلي في الذخائر .

(سابعها) أن لا يسبق الداعي غيره فإن دعاه اثنان أجاب الأسبق فإن جاءا معا أجاب الأقرب رحما ثم دارا ، وعكس الماوردي والروياني فقدما قرب الجوار على قرب الرحم ، وذكرا بعدهما القرعة .

وقال الحنابلة يقدم أدينهما ثم أقربهما رحما ثم حوارا ثم بالقرعة ، وإجابة الأول هو امتثال لهذا الحديث ، والامتناع من الثاني إذا تزاحما في الوقت ليعذر الجمع بينه وبين الأول ، والله أعلم .

(ثامنها) أن لا يكون هناك من يتأذى بحضوره ، ولا تليق به مجالسته فإن كان فهو معذور في التخلف ، وكذا اعتبر المالكية في الوجوب أن لا يكون هناك أراذل ، وأشار الغزالي في الوسيط إلى حكاية وجه بخلاف هذا ، وفي البحر للروياني لو دعا محتشما مع سفهاء القوم هل تلزمه الإجابة ، وجهان . ويوافقه قول الماوردي ليس من الشروط ألا يكون عدوا للمدعو ، ولا يكون في الدعوة من هو عدو له ، وفيما قاله نظر ، وأي تأذ أشد من مجالسة العدو .

(تاسعها) ألا يكون هناك منكر كشرب الخمر والملاهي فإن كان [ ص: 74 ] نظر إن كان الشخص المدعو ممن إذا حضر رفع المنكر فليحضر إجابة للدعوة وإزالة للمنكر ، وإلا فوجهان :

(أحدهما) الأولى أن لا يحضر ، ويجوز أن يحضر ، ولا يستمع ، وينكر بقلبه كما لو كان يضرب المنكر في جواره فلا يلزمه التحول ، وإن بلغه الصوت ، وعلى ذلك جرى العراقيون كما قال الرافعي أو بعضهم كما قال النووي ، وحكاه البيهقي عن أصحابنا ، وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله في الأم ، والمختصر ، وحكي عن أبي حنيفة ابتليت بهذا مرة ، وهذا لأن إجابة الدعوة سنة فلا يتركها لما اقترنت من البدعة من غيره قال ، وهذا إذا لم يكن مقتدى فإن كان ، ولم يقدر على منعهم يخرج ، ولا يقعد لأن في ذلك شين الدين وفتح باب المعصية على المسلمين ، والمحكي عن أبي حنيفة كان قبل أن يصير مقتدى ، ولو كان ذلك على المائدة لا ينبغي أن يقعد ، وإن لم يكن مقتدى لقوله تعالى فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين قال : وهذا كله بعد الحضور ، ولو علم قبل الحضور لا يحضر لأنه لم يلزمه حق الدعوة بخلاف ما إذا هجم عليه لأنه قد لزمه انتهى .

(والوجه الثاني لأصحابنا أنه يحرم الحضور) لأنه كالرضى بالمنكر وإقراره ، وبه قال المراوزة ، وهو الصحيح ، وإذا قلنا به فلم يعلم حتى حضر نهاهم فإن لم ينتهوا فليخرج ، والأصح تحريم القعود إلا أن لا يمكنه الخروج بأن كان في الليل ، وخاف فيقعد كارها ، ولا يستمع ، وعلى هذا الوجه الثاني جرى الحنابلة قالوا فإن علم بالمنكر ، ولم يره ، ولم يسمعه فله الجلوس ، وكذا اعتبر المالكية في وجوب الإجابة أن لا يكون هناك منكر .

وقال ابن عبد البر قال مالك وابن القاسم أما اللهو الخفيف مثل الدف فلا يرجع ، وقال أصبغ أرى أن يرجع قال ، وقد أخبرني ابن وهب عن مالك أنه لا ينبغي لذي الهيئة أن يحضر موضعا فيه لعب ثم حكى ابن عبد البر الفرق بين المقتدى به وغيره عن محمد بن الحسن ، والأصل في هذا الباب امتناعه عليه الصلاة والسلام من دخوله بيته لما رأى فيه نمرقة فيها تصاوير ، وهو في الصحيح من حديث عائشة ، وبوب عليه البخاري (باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة ) قال ، ورأى ابن مسعود صورة في البيت فرجع .

، ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سترا على الجدار فقال ابن عمر غلبنا عليه [ ص: 75 ] النساء فقال من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك ، والله لا أطعم لكم طعاما فرجع .

(عاشرها) أن لا يدعوه من أكثر ماله حرام فمن هو كذلك تكره إجابته فإن علم أن غير الطعام حرام حرمت ، وإلا فلا قال المتولي في التتمة فإن لم يعلم حال الطعام ، وغلب الحلال لم يتأكد الإجابة أو الحرام أو الشبهة كرهت .

(حادي عشرها) قال إبراهيم المروزي من أصحابنا لو دعته أجنبية ، وليس هناك محرم له ، ولا لها ، ولم تخل به بل جلست في بيت ، وبعثت بالطعام إليه مع خادم إلى بيت آخر من دارها لم يجبها مخافة الفتنة حكاه النووي في الروضة ، وأقره ، وقال السبكي ، وهو الصواب إلا أن يكون الحال على خلاف ذلك كما كان سفيان الثوري ، وأضرابه يزورون رابعة العدوية ، ويسمعون كلامها فإذا وجدت امرأة مثل رابعة ، ورجل مثل سفيان لم يكره لهما ذلك قلت أين مثل سفيان ، ورابعة بل الضابط أن يكون الحضور إليها لأمر ديني مع أمن الفتنة ، وقال شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي إن أراد المروزي تحريم الإجابة فممنوع ، وإن أراد عدم الوجوب فلا حاجة لتقييده بعدم وجود محرم لأن هنا مانعا آخر من الوجوب وهو عدم العموم .

(ثاني عشرها) أن لا يكون المدعو قاضيا ذكره بعض أصحابنا ، وقال مطرف وابن الماجشون من المالكية لا ينبغي للقاضي أن يجيب الدعوة إلا في الوليمة وحدها للحديث ، وفي الموازنة أكره أن يجيب أحدا ، وهو في الدعوة خاصة أشد ، وقال سحنون يجيب الدعوة العامة ، ولا يجيب الخاصة فإن تنزه عن مثل هذا فهو أحسن قال الشيخ تقي الدين في شرح الإلمام ، والعموم يقتضي ظاهره المساواة بين القاضي وغيره قال : والذين استثنوا القاضي فإنما استثنوه لمعارض قام عندهم ، وكأنه طلب صيانته عما يقتضي ابتذاله ، وسقوط حرمته عند العامة ، وفي ذلك عود ضرر على مقصود القضاء من تنفيذ الأحكام لأن الهيئات معينة عليها ، ومن لم يعتبر هذا رجع إلى الأمر ، وإن ترك العمل بمقتضاه مفسدة محققة ، وما ذكر من سبب التخصيص قد لا يفضي إلى المفسدة انتهى . ويحتمل أن يكون المعنى في المنع ما فيه من استمالته ، وأنه قد يكون في معنى قبوله الهدية ، والله أعلم .

(ثالث عشرها) قال الماوردي يشترط أن يكون [ ص: 76 ] الداعي مكلفا حرا رشيدا ، وإن أذن ولي المحجور لم تجب إجابته أيضا لأنه مأمور بحفظ ماله ، ولو أذن سيد العبد فهو حينئذ كالحر .

(رابع عشرها) أن يكون المدعو حرا فلو دعا عبدا لزمه إن أذن سيده ، وكذا المكاتب إن لم يضر حضوره بكسبه فإن ضر ، وأذن سيده فوجهان . والمحجور فيما إذا كان مدعوا كالرشيد .

(خامس عشرها) أن لا يكون معذورا بمرخص في ترك الجماعة ذكره الماوردي والروياني قالا : ولو اعتذر بحر أو برد فإن منعا غيره من التصرف منع ، وإلا فلا .

(سادس عشرها) قال شيخنا قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي في التوشيح ينبغي أن يتقيد أيضا بما إذا دعاه في وقت استحباب الوليمة دون ما إذا دعاه في غير وقتها قال ، ولم ير في صريح كلام الأصحاب تعين وقتها فاستنبط الوالد رحمه الله من قول البغوي ضرب الدف في النكاح جائز في العقد ، والزفاف قبل ، وبعد قريبا منه أن وقتها موسع من حين العقد قال ، والمنقول عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول (قلت) وبوب البيهقي في سننه على وقت الوليمة ، وذكر فيه حديث أنس بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلني فدعوت رجالا الحديث ، وقال النووي في شرح مسلم اختلف العلماء في وقت فعلها فحكى القاضي عياض أن الأصح عند مالك وغيره أنه يستحب فعلها بعد الدخول ، وعن جماعة من المالكية استحبابها عند العقد ، وعن ابن حبيب استحبابها عند العقد ، وبعد الدخول ثم قال بعد ذلك بنحو ورقتين سبق أنها تجوز قبل الدخول وبعده انتهى .

ولم يسبق له ذلك ثم إن أريد أنه لا تجب الإجابة فيما إذا علمت الوليمة قبل العقد فهو واضح ، ولكن لا يحتاج إلى ذكره لأنها ليست وليمة عرس ، ويبقى النظر فيما لو دعي قبل العقد ليحضر العقد ، ويأكل طعاما قد هيئ هل تجب الإجابة أم لا فيه احتمال لكونه لم يعقد إلى الآن ، والظاهر وجوب الإجابة لكون الوليمة إنما تفعل بعد العقد ، وإن كان الإعلام بها سابقا ، وإن أريد أنا إذا استحببنا أن تكون بعد الدخول فعملت قبله لا تجب الإجابة فهو ممنوع لأنها وليمة عرس ، وإن عدل بها صاحبها عن الأفضل فهو كمن أولم بغير شاة مع التمكن منها .

(سابع عشرها) أن يكون المدعو مسلما فلو دعا مسلم كافرا لم تلزمه الإجابة [ ص: 77 ] جزما كما صرح به الماوردي والروياني ، وعللاه بأنه لم يلتزم أحكامنا إلا عن تراض فلو رضي ذميان بحكمنا أخبرناهما بإيجاب الإجابة ، وهل يخبر المدعو أم لا فيه قولان حكاهما الماوردي ، والروياني فهذا ما وقفت عليه في ذلك لأصحابنا المتقدمين والمتأخرين ، واعتبر مالك رحمه الله في وجوب الإجابة أن لا يكون هناك زحام ولا إغلاق باب دونه حكاه عنه ابن الحاجب في مختصره فأما الأول ، وهو انتفاء الزحام فقد صرح الروياني من أصحابنا بخلافه ، وقال إن الزحام ليس عذرا ، وقد يقال إنه مختلف لما سبق من اعتبار أن لا يكون هناك من يتأذى به فإن الزحام مما يتأذى به .

وأما الثاني ، وهو إغلاق الباب دونه فإن أريد استمرار إغلاقه فلا يفتح له أصلا فهذا واضح لأنه لم يتمكن من حضور الوليمة فلا يمكن القول بوجوبه عليه ، وإن أريد إغلاقه حتى يحتاج إلى الأعلام ، والتوسل فيفتح فهذا محتمل ، ولا يبعد على قواعدنا القول به لما في الوقوف على الأبواب من الذل الذي يصعب على الإنسان ، ويشق عليه احتماله ، والله أعلم .

واعتبر الحنابلة في وجوب الإجابة أن لا يكون الداعي ممن يجوز هجره ، والقول به عندنا قريب لأن التودد بحضور الوليمة أشد وأبلغ من السلام والكلام فإذا لم يحي فحضور الوليمة أولى فهذه عشرون شرطا .

(الخامسة) استدل به على وجوب الإجابة في وليمة غير العرس تمسكا بلفظ الوليمة ، ويؤيد ذلك قوله في بعض الروايات إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه ، وقوله في رواية أخرى من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب ، وقد تقدم ذكرهما ، وأن عبد الله بن عمر راوي الحديث كان يأتي الدعوة في العرس ، وهو صائم ، وهو في الصحيحين كما تقدم ، وبهذا قال بعض أصحابنا الشافعية ، وحكاه ابن عبد البر عن عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي ، وأشار إليه البخاري بتبويبه على رواية موسى بن عقبة باب إجابة الداعي في العرس وغيرها ، وإليه ذهب أهل الظاهر ، وادعى ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين ، وفي ذلك نظر ، وذهب المالكية والحنابلة والحنفية إلى الجزم بعدم الوجوب في بقية الولائم ، وهو المشهور عند الشافعية ، وحكى السرخسي وغيره إجماع المسلمين عليه ، ويدل له [ ص: 78 ] التقييد في بعض الروايات بقوله وليمة عرس ، وقد تقدم ذكرها فيحمل المطلق على المقيد ، وصرح الحنابلة بأن إجابة وليمة غير العرس مباحة لا تستحب ، ولا تكره ، وقال الشافعي رحمه الله إتيان دعوة الوليمة حق ، والوليمة التي تعرف وليمة العرس ، وكل دعوة دعي إليها رجل ، واسم الوليمة يقع عليها فلا أرخص لأحد في تركها ، ولو تركها لم يبن لي أنه عاص في تركها كما تبين لي في وليمة العرس ثم ساق الكلام إلى أن قال (إني لا أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوليمة على عرس ، ولم أعلمه أولم على غيره) رواه عنه البيهقي في المعرفة .

وقال الطحطاوي لم نجد عند أصحابنا عن أبي حنيفة ، وأصحابه في ذلك شيئا إلا في إجابة دعوة وليمة العرس خاصة ، وذكر الخطابي أن المعنى في اختصاص وليمة النكاح بالإجابة ما فيه من إعلان النكاح ، والإشادة به .

(السادسة) إذا عدينا الإيجاب أو الاستحباب إلى سائر الولائم فقال الشيخ تقي الدين في شرح الإلمام إن الحديث عامة بالنسبة إلى أهل الفضل وغيرهم ، والمنقول عن مالك رحمه الله أنه كره لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم قال القاضي عياض ، وتأوله بعض أصحابنا على غير الوليمة قال ، وتأوله بعضهم على غير أسباب السرور المتقدمة مما يصنع تفضلا .

وقال ابن حبيب قال مطرف وابن الماجشون ، وكلما لزم القاضي من النزاهات في جميع الأشياء فهو به أجمل وأولى ، وإنا لنحب هذا لذي المروءة والهدى أن لا يجيب إلا في الوليمة إلا أن يكون لأخ في الله أو خاصة أهله أو ذوي قرابته فلا بأس بذلك قال الشيخ تقي الدين ، وهذا تخصيص آخر ، ومقتضاه أضعف من الأول يعني استثناء القاضي قال وظاهر الحديث يقتضي الإجابة والمروءة والفضل والهدى في اتباع ما دل عليه الشرع ، ثم قال نعم إذا تحققت مفسدة راجحة فقد يجعل ذلك مخصصا انتهى .

(السابعة) العرس بضم العين المهملة ، وبإسكان الراء وضمها لغتان مشهورتان ، وهي مؤنثة ، وفيها لغة بالتذكير قال في المحكم ، وهي مهنة البناء والأملاك ، وقيل طعامه خاصة ، والدعوة هنا بفتح الدال .

وأما دعوة النسب فبكسرها هذا قول جمهور العرب قال النووي في شرح مسلم ، وعكسه تيم الرباب بكسر الراء فقالوا الطعام بالكسر والنسب بالفتح (قلت) إنما حكى ذلك صاحبا الصحاح ، والمحكم عن عدي الرباب لا عن تيم الرباب ، وذكر [ ص: 79 ] قطرب في مثلثه أن دعوة الطعام بضم الدال قال النووي ، وغلطوه فيه

(الثامنة) قوله فإن كان صائما فليدع لهم على أن قوله في الرواية الأخرى فليصل معناه الدعاء لا الصلاة الشرعية المعهودة ، والمراد الدعاء لأهل الطعام بالمغفرة والبركة ، ونحو ذلك ، وأصل الصلاة في اللغة الدعاء ، ومنه قوله تعالى وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وأبعد من قال إن المراد هنا الصلاة الشرعية بالركوع والسجود أي يشتغل بالصلاة ليحصل له فضلها ، وتحصل البركة لأهل المنزل والحاضرين ، وقد يحمل اللفظ على معنييه ، ويقال يأتي بالأمرين الصلاة الشرعية والدعاء لأن الدعاء في الصلاة ، وعقبها أقرب إلى الإجابة .

(التاسعة) فهم من قوله فليدع لهم حصول المقصود بذلك ، وأنه لا يجب عليه الأكل ، وهو كذلك في هذه الحالة بلا خلاف لكن إن كان صومه فرضا لم يجز له الأكل لأن الفرض لا يجوز له الخروج منه ، وإن كان نفلا جاز له عند الشافعية والحنابلة ، ومن جوز الخروج من صوم النفل جوز الفطر وتركه ، وأما الأفضل من ذلك فقال أكثر أصحابنا ، وبعض الحنابلة إن كان يشق على الداعي صاحب الطعام صومه فالأفضل الفطر ، وإلا فالأفضل الإتمام ، وأطلق الروياني من أصحابنا والقاضي من الحنابلة استحباب الفطر ، وكذا قال ابن الرفعة من أصحابنا لا فرق بين أن يشق على الداعي تركه أم لا ثم حكى عن الخراسانيين أنه إن شق أو ألح عليه استحب ، وإلا فلا انتهى .

ومقتضاه الاكتفاء عندهم بالإلحاح ، وإن ظهر منه عدم المشقة بتركه .

(العاشرة) في قوله ، وكان عبد الله يأتي الدعوة في العرس وغير العرس ، وهو صائم لأن الصوم ليس عذرا في ترك الإجابة ، وكذا قوله في الرواية المتقدمة فإن كان صائما فليدع لهم ، وبه صرح الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ، واستثنى منه شيخنا الإمام البلقيني ما إذا كانت الدعوة في نهار رمضان في أول النهار ، والمدعوون كلهم مكلفون صائمون قال فلا تجب الإجابة إذ لا فائدة في ذلك إلا رؤية طعامه ، والقعود من أول النهار إلى آخره مشق فإن أراد هذا فليدعهم عند الغروب قال : وهذا واضح .

(الحادية عشرة) في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من رواية سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم إلى [ ص: 80 ] طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك . لفظ مسلم ، ولم يقل أبو داود ، والنسائي إلى طعام

واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجب على المفطر الأكل ، وهو أصح الوجهين عند الشافعية ، وبه قال الحنابلة ، والوجه الثاني لأصحابنا أنه يجب الأكل ، واختاره النووي في تصحيح التنبيه ، وصححه في شرح مسلم في الصيام ، وبه قال أهل الظاهر ، ومنهم ابن حزم ، وتوقف المالكية في ذلك ، وعبارة ابن الحاجب في مختصره ، ووجوب أكل المفطر محتمل ، وتمسك الذين أوجبوا بقوله في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فإن كان مفطرا فليطعم . وكذا في حديث أبي هريرة فإن كان صائما فليصل ، وإن كان مفطرا فليطعم ، وهو في صحيح مسلم ، وحملوا الأمر على الوجوب ، وأجابوا عن حديث جابر المتقدم بأجوبة (أحدها) قال ابن حزم لم يذكر فيه أبو الزبير أنه سمعه من جابر ، ولا هو من رواية الليث عنه فإنه أعلم له على ما سمعه منه ، وليس هذا الحديث مما أعلم له عليه فبطل الاحتجاج به .

(ثانيها) قال ابن حزم أيضا ثم لو صح لكان الخبر الذي فيه إيجاب الأكل زائدا على هذا ، وزيادة العدل لا يحل تركها (قلت) ليس هذا صريحا في إيجاب الأكل فإن صيغة الأمر ترد للاستحباب .

وأما التخيير الذي في حديث جابر فإنه صريح في عدم الوجوب فالأخذ به ، وتأويل الأمر متعين ، والله أعلم .

(ثالثها) قال النووي من أوجب تأويل تلك الرواية على من كان صائما (قلت) وأشار والدي رحمه الله في الرواية الكبرى من الأحكام إلى تأييد هذا التأويل بأن ابن ماجه روى حديث جابر هذا في الصوم من نسخته من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه بلفظ من دعي إلى طعام ، وهو صائم فليجب فإن شاء طعم ، وإن شاء ترك .

والروايات يفسر بعضها بعضا ، وقد أخرج مسلم في صحيحه رواية ابن جريج هذه ، ولم يسق لفظها بل قال إنها مثل الأولى ، وقد عرفت زيادة هذه الفائدة فيها ، وهذا الجواب أقوى هذه الأجوبة قال أصحابنا وإذا قلنا بوجوب الأكل فيحصل ذلك ، ولو بلقمة ، ولا تلزمه الزيادة لأنه يسمى أكلا ، ولهذا لو حلف لا يأكل حنث بلقمة ، ولأنه قد يتخيل صاحب الطعام أن امتناعه بشبهة يعتقدها في الطعام فإذا أكل لقمة زال ذلك التخيل ، وحكى [ ص: 81 ] المازري ، وجها أن الأكل فرض كفاية .

(الثانية عشرة) استدل به بعضهم على وجوب الوليمة ، وقال لو لم تكن واجبة لما كانت الإجابة إليها واجبة ورد بأن ابتداء السلام ليس بواجب ، ومع ذلك فرده واجب ، والأصح عند أصحابنا وغيرهم أنها مستحبة

التالي السابق


الخدمات العلمية