صفحة جزء
باب النفقات .

عن عروة عن عائشة قالت جاءت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض خباء أحب إلي من أن يذلهم الله من أهل خبائك ، وما على ظهر الأرض اليوم أهل خباء أحب إلي أن يعزهم الله من أهل خبائك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضا والذي نفسي بيده ثم قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أنفق على عياله من ماله بغير إذنه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف ، وفي رواية لمسلم رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ، ويكفي بني إلا ما آخذه من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ، ويكفي بنيك .


باب النفقات .

الحديث الأول .

عن عروة عن عائشة قالت جاءت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ما كان على وجه الأرض خباء أحب إلي من أن يذلهم الله من أهل خبائك ، وما على ظهر الأرض اليوم أهل خباء أحب إلي أن يعزهم الله من أهل خبائك ، فقال رسول [ ص: 170 ] الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضا ، والذي نفسي بيده ، ثم قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أنفق على عياله من ماله بغير إذنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حرج عليك أن تنفقي عليهم بالمعروف . (فيه) فوائد :

(الأولى) أخرجه من هذا الوجه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي من طريق عبد الرزاق عن معمر بلفظ ممسك ، وليس في رواية أبي داود ، والنسائي قصة الخباء ، وأخرجه البخاري من طريق يونس ، ومن طريق شعيب بن أبي حمزة ، وأخرجه مسلم أيضا من طريق محمد بن عبد الله بن أخي الزهري ، ولفظ يونس ، وابن أخي الزهري فقال لا إلا بالمعروف كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة ، وأخرجه الأئمة الستة خلا الترمذي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، ولفظ مسلم رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما آخذه من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ، ويكفي بنيك [ ص: 171 ] فأورده البخاري في مواضع أخصر من هذا .

(الثانية) (هند) هي بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان صخر بن حرب كما هو مصرح بنسبها في رواية للشيخين ، وفي لفظها وجهان مشهوران الصرف ، وعدمه .

(الثالثة) قولها ما كان على ظهر الأرض خباء بكسر الخاء المعجمة ممدود كذا رويناه عن والدي رحمه الله ، وهو في صحيح مسلم بلفظ أهل خباء ، ولا بد من تقدير " أهل " في روايتنا بدليل قوله (يذلهم) إن صح حذفه في روايتنا ، وهو مذكور في الألفاظ الثلاثة التي بعدها قال القاضي عياض إن أرادت به نفسه عليه السلام فكنت عنه بهذا ، وأكبرته عن مخاطبته وتعيينه ، ويحتمل أن تريد بأهل الخباء أهل بيته ، والخباء يعبر به عن مسكن الرجل ، وداره انتهى .

وقال في المشارق هو بيت من بيوت العرب قال أبو عبيد يكون من وبر أو صوف ، ولا يكون من شعر ثم يستعمل في غيره من مساكنهم .

وقال القرطبي أي أهل بيت كما جاء مفسرا في بعض طرقه ، وسمي البيت خباء لأنه يخبئ ما فيه ، والخباء في الأصل مصدر تقول خبأت الشيء خبئا وخباء انتهى .

وفي المحكم عن ابن دريد أصله من خبأت خباء قال : ولم يقل أحد أن الخبأ أصله الهمز إلا هو بل قد صرح بخلاف ذلك انتهى قال القرطبي ، ووصف هند في هذا الحديث جاء لها في الكفر ، وما كانت عليه من بغض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبغض أهل بيته ، وما آبت إليه حالها لما أسلمت ، تذكر لنعمة الله عليها بما أنقذها الله منه ، وبما أوصلها إليه ، وتعظيم لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتنبسط فيما تريد أن تسأل عنه ، ولتزول آلام القلوب لما كان منها يوم أحد في شأن حمزة وغير ذلك .

(الرابعة) قوله عليه الصلاة والسلام : وأيضا والذي نفسي بيده أي ستزيدين من ذلك ويتمكن الإيمان من قلبك ، ويزيد حبك لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقوى رجوعك عن بغضه . وأصل هذه اللفظ آض يئيض أيضا إذا رجع ، وفي هذا بشرى لها بقوة إيمانها وتمكنه ومنقبة لها بذلك .

(الخامسة) قولها (إن أبا سفيان رجل مسيك) أي شحيح كما في الرواية الأخرى ، والشح عندهم في كل شيء ، وهو أعم من البخل ، وقيل الشح لازم كالطبع ، وضبطت هذه اللفظة بوجهين حكاهما القاضي عياض (أحدهما) مسيك بفتح الميم وتخفيف السين ، والثاني بكسر الميم وتشديد [ ص: 172 ] السين قال القاضي عياض : وكانوا يرجحون فتح الميم ، والآخر جائز على المبالغة كما قالوا : شريب وسكير ، والأول أيضا من أبنية جمع المبالغة ، وقال النووي : وهذا الثاني هو الأشهر في روايات المحدثين ، والأول أصح عند أهل العربية قال أبو العباس القرطبي : ولم ترد أنه شحيح مطلقا فتذمه بذلك ، وإنما وصفت معها فإنه كان يقتر عليها ، وعلى أولادها كما قالت لا يعطيني وبني ما يكفيني ، وهذا لا يدل على البخل مطلقا فقد يفعل الإنسان هذا مع أهل بيته لأنه يرى غيرهم أحوج منهم ، وأولى ليعطي غيرهم ، وعلى هذا فلا يجوز أن يستدل به على أن أبا سفيان كان بخيلا فإنه لم يكن معروفا بهذا .

(السادسة) فيه جواز ذكر الإنسان بما يكرهه إذا كان للاستفتاء والتشكي ونحوهما ، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة .

(السابعة) وفيه جواز سماع كلام الأجنبية عند الإفتاء والحكم ، وما في معناهما ، وهذا إما أن يدل على أن صوتها ليس بعورة أو على استثناء مثل هذه الصورة مثل المنع عند القائل بأنه عورة .

(الثامنة) فيه وجوب نفقة الزوجة وأنها مقدرة بالكفاية ، وهو المشهور من مذاهب العلماء ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد ، وذهب الشافعي إلى تقديرها بالإمداد فقال على الموسر كل يوم مدان ، وعلى المعسر مد ، وعلى المتوسط مد ونصف قال النووي في شرح مسلم : وهذا الحديث يرد على أصحابنا ، وفي مختصر ابن الحاجب ، وقدر مالك المد في اليوم ، وقدر ابن القاسم ويبتين ونصفا في الشهر إلى ثلاث لأن مالكا بالمدينة وابن القاسم بمصر ، وحكى الشيخ أبو محمد الجويني قولا عن الشافعي أن نفقة الزوجة مقدرة بالكفاية .

(التاسعة) استدل به بعض الحنفية على اعتبار النفقة بحال المرأة ، وأوضح من ذلك قوله في الرواية الأخرى (ما يكفيك) لكن عارض ذلك قوله تعالى لينفق ذو سعة من سعته فإنه يدل على اعتبار حال الزوج ، وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب المالكية والحنابلة إلى اعتبار حالهما معا ، وهو اختيار الخصاف من الحنفية قال صاحب الهداية وعليه الفتوى ، وذهب الشافعي إلى اعتبار حال الزوج ، وهو قول الكرخي من الحنفية .

(العاشرة) وفيه وجوب نفقة الأولاد وأنها مقدرة بالكفاية ، وهو متفق عليه لكن لا بد أن ينضم إلى [ ص: 173 ] ذلك الفقر فلا تجب نفقة الغني ، وهل يعتبر الصغر ، والزمانة أو لا يعتبر ذلك فيه خلاف ومذهب الشافعي اعتباره .

(الحادية عشرة) قال الخطابي استدل به بعضهم على وجوب نفقة خادم المرأة على الزوج قال : وذلك أن أبا سفيان رجل رئيس في قومه ويبعد أن يتوهم عليه أن يمنع زوجته نفقتها ، ويشبه أن يكون ذلك في نفقة خادمها فأضيف ذلك إليها إذ كانت الخادم في ضمنها ومعدودة في جملتها انتهى . والمعروف من مذاهب الفقهاء إيجاب نفقة خادم الزوجة ، وبه قال الأئمة الأربعة ، واعتبر الشافعي والمالكية والحنابلة في إيجاب ذلك أن يكون ممن يخدم مثلها عادة أو تحتاج إليه لمرض ، واعتبر الحنفية أن يكون الزوج موسرا رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ، وصححه صاحب الهداية ، وخالف في ذلك محمد بن الحسن ، ثم قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا يجب عليه نفقة أكثر من خادم واحد ، وقال أبو يوسف يفرض لخادمين لأنها تحتاج إلى أحدهما لمصالح الداخل وإلى الآخر لمصالح الخارج ، واختلف المالكية في ذلك على ثلاثة أقوال .

(ثالثها) إن طالبها بأحوال الملوكية لزمه ، وخالف ابن حزم الظاهري في إيجاب نفقة الخادم ، وقال ليس على الزوج أن ينفق على خادم لزوجته ، ولو أنه ابن الخليفة ، وهي بنت خليفة إنما عليه أن يقوم لها بمن يأتيها بالطعام والماء مهيئا ممكنا للأكل غدوة وعشية ، ومن يكفيها جميع العمل من الكنس والفرش ، وعليه أن يأتيها بكسوتها كذلك لأن هذه صفة الرزق والكسوة قال : ولم يأت نص قط بإيجاب نفقة خادمها عليه .

(الثانية عشرة) استدل به على أن من له على غيره حق ، وهو عاجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه ، وهو مذهب الشافعي وجماعة ومنع ذلك أبو حنيفة ومالك ، وحكى الداودي القولين عن مالك قال الخطابي : وسواء كان من جنس حقه أو من غير جنسه لأن منزل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر المرافق التي تلزمه لهم ثم أطلق الإذن لها في أخذ كفايتها وكفاية أولادها من ماله ، ويدل على صحة ذلك قولها في رواية أخرى ، وأنه لا يدخل على بيتي ما يكفيني وولدي .

(الثالثة عشرة) [ ص: 174 ] فيه جواز إطلاق الفتوى ، ويكون المراد تعليقها بثبوت ما يقوله المستفتي ، ولا يحتاج المفتي أن يقول إن ثبت كان الحكم كذا ، وكذا بل يجوز له الإطلاق كما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم فإن قال ذلك لا بأس قال أبو العباس القرطبي ، وهذه الإباحة ، وإن كانت مطلقة لفظا فهي مقيدة معنى فكأنه قال إن صح ما ذكرت فخذي .

(الرابعة عشرة) فيه أن للمرأة مدخلا في كفالة أولادها والإنفاق عليهم من مال أبيهم قال أصحابنا إذا امتنع الأب من الإنفاق على الولد الصغير أو كان غائبا أذن القاضي لأمه بالأخذ من مال الأب أو الاستقراض عليه والإنفاق على الصغير بشرط أهليتها لذلك ، ولها الاستقلال بالأخذ من ماله بغير إذن القاضي بناء على أن إذن النبي صلى الله عليه وسلم كان إفتاء ، وهو الأصح كما سنبينه فإن قلنا كان قضاء فلا يجوز لغيرها إلا بإذن القاضي .

(الخامسة عشرة) فيه اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي قال النووي ، وقال أبو العباس القرطبي فيه دليل على اعتبار العرف في الأحكام الشرعية خلافا للشافعية ، وغيرهم من المنكرين له لفظا الآخذين له عملا انتهى .

وقوله في تلك الرواية المتقدمة لا إلا بالمعروف ذكر القاضي عياض النووي والقرطبي أن تقديره لا حرج ثم ابتدأ فقال إلا بالمعروف أي لا تنفقي إلا بالمعروف أو لا حرج إذا لم تنفقي إلا بالمعروف (قلت) ويحتمل أن تقديره لا تنفقي إلا بالمعروف ، والله أعلم .

(السادسة عشرة) استدل به البخاري والخطابي ، وغيرهما على جواز القضاء على الغائب قال النووي بعد حكايته هذا الاستدلال عن جماعات من أصحابنا ، وغيرهم ، ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث لأن هذه القضية كانت بمكة ، وكان أبو سفيان حاضرا بها ، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد أو مستترا لا يقدر عليه أو متعززا ، ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجودا فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء ، وفي كون إذنه عليه الصلاة والسلام في هذه القضية إفتاء أو قضاء وجهان لأصحابنا أصحهما أنه إفتاء انتهى . وكلام الرافعي في غير موضع يقتضي ذلك لكنه قال في القضاء في الغائب ، واحتج الأصحاب على أبي حنيفة في منعه القضاء على الغائب بقضية هند ، وكان ذلك قضاء منه [ ص: 175 ] على زوجها أبي سفيان ، وهو غائب انتهى .

والجمهور على القضاء على الغائب ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد إلا أن عن مالك قولين في الحكم عليه في الرباع ثم إن القضاء على الغائب إنما يكون في حقوق الآدميين ، ولا يقضى عليه في حقوق الله تعالى ، وذهب أبو حنيفة وسائر الكوفيين إلى أنه لا يقضى عليه بشيء .

(السابعة عشرة) استدل به أيضا البخاري والخطابي على أنه يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه بناء على أنه قضاء قال : وذلك أنه لم يكلفها البينة فيما ادعته من ذلك إذ كان قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينهما من الزوجية ، وأنه كان كالمستفيض عندهم بخل أبي سفيان انتهى ، والأظهر من قولي الشافعي جواز القضاء بالعلم في غير حدود الله تعالى ، والأشهر عن أحمد منعه إلا في عدالة الشهود وجرحهم .

وقال المالكية لا يحكم بعلمه مطلقا إلا أن يكون بعد الشروع في المحاكمة ففيه قولان فلو حكم بعلمه في غيره ففي فسخه قولان ، وأما ما أقر به في مجلس الخصومة فحكم به فلا ينقض فلو أنكر بعد إقراره فقال مالك وابن القاسم لا يحكم بعلمه ، وقال ابن الماجشون وسحنون يحكم فلو أنكر بعد أن حكم لم يفده على المشهور ، ومن العجيب جمع البخاري والخطابي ، وغيرهما بين هذا الاستدلال ، والذي قبله وبين الاستدلال به على مسألة الظفر لا يكون إلا على الفتوى ، وهذان : الاستدلال على القضاء والجمع بينهما متعذر ، والله أعلم .

(الثامنة عشرة) قال أبو العباس القرطبي فيه أن المرأة لا يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها شيئا بغير إذنه قل ذلك أو كثر قال : وهذا لا يختلف فيه (قلت) لكن لا يتعين في ذلك الإذن الصريح فيجوز التصرف فيما تقوم القرائن على المسامحة به .

(التاسعة عشرة) فيه جواز خروج المرأة من بيتها لحاجتها إذا أذن لها زوجها في ذلك أو علمت رضاه به .

التالي السابق


الخدمات العلمية