صفحة جزء
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون دم والريح ريح مسك ، وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دما اللون لون دم ، والعرف عرف المسك قال قال أبي يعني (العرف الريح) .


الحديث الرابع وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون دم ، والريح ريح مسك وعن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله ثم يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دما اللون لون دم ، والعرف عرف المسك ، قال أبي يعني العرف الريح . (فيه) [ ص: 199 ] فوائد :

(الأولى) أخرجه من الطريق الأولى البخاري من طريق مالك ومسلم من طريق سفيان بن عيينة كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، وأخرجه من الطريق الثانية البخاري من طريق عبد الله بن المبارك ، ومسلم من طريق عبد الرزاق كلاهما عن معمر عن همام عن أبي هريرة .

(الثانية) قوله (لا يكلم) بضم الياء وإسكان الكاف وفتح اللام مخففة أي لا يجرح ، والكلم بفتح الكاف وإسكان اللام الجرح .

(الثالثة) قوله (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) جملة معترضة نبه بها على الإخلاص في الغزو ، وأن الثواب المذكور فيه إنما يكون لمن أخلص فيه وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا .

(الرابعة) قوله (يثعب) بفتح الياء وإسكان الثاء المثلثة وفتح العين المهملة معناه يجري منفجرا كثيرا ، وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى تفجر دما ، وهو بفتح الجيم وتشديدها ، وأصله تتفجر فحذفت إحدى التاءين تخفيفا .

(الخامسة) قوله في الرواية الثانية كل كلم يكلمه المسلم مخصص لقوله في الرواية الأولى أحد فإن أريد بالمسلم الكامل الإسلام فهو لا يكون كلمه إلا في سبيل الله ، ولهذا لم يذكر في الرواية الثانية قوله والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، وقوله ثم تكون هو بالتاء المثناة من فوق ، وجاء على التأنيث فيه ، وفي قوله (كهيئتها) وفي قوله ( إذا طعنت) وفي قوله تفجر مع تقديم التذكير في قوله كل كلم يكلمه المسلم على التأويل بالجراحة قال النووي في شرح مسلم وإذا طعنت بالألف بعد الدال كذا هو في جميع النسخ (قلت) وإنما نبه على ذلك لأنه كان مقتضى الظاهر أن يقال إذ بدون ألف لأنه إخبار عن حالة ماضية ، وكان التعبير بإذا لتصوير تلك الحالة ، وأنها في القيامة كحالة الجراحة .

(السادسة) إن قلت أين خبر قوله كل كلم يكلمه المسلم (قلت) يحتمل أن يكون قوله في سبيل الله بناء على أن المراد كامل الإسلام فأخبر بأن جميع كلوم المسلم الكامل الإسلام في سبيل الله ، ويحتمل أن يكون قوله يكون يوم القيامة إلى آخره ، وثم زائدة ، ويحتمل أن يكون الخبر قوله اللون لون دم ، ويكون جميع ما تقدم لك من تتمة أوصاف المبتدأ فمحط الفائدة الإخبار بأن جراحات سبيل الله تكون في القيامة رائحتها كالمسك .

(السابعة) (العرف) بفتح العين المهملة الريح كما في الرواية الأخرى [ ص: 200 ] وقد فسره بذلك الإمام أحمد ، والقائل قال أبي هو ابنه عبد الله ، ولو قال يعني بالعرف الريح لكان أولى ، وكأنه حذف حرف الجر من قوله العرف على طريق التوسع فانتصب .

(الثامنة) فيه أن المجروح في سبيل الله يحيى يوم القيامة على هيئته حالة الجراحة ، وظاهره أنه لا فرق في ذلك بين أن يستشهد أو تبرأ جراحته لقوله كل كلم ، ، والحكمة في ذلك أن يكون معه شاهد فضيلته ، وبذله نفسه في طاعة الله تعالى .

(التاسعة) قال النووي قالوا وهذا الفضل ، وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار فيدخل فيه من خرج في سبيل الله في قتل البغاة وقطاع الطريق ، وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحو ذلك أيضا وكذا قال ابن عبد البر إن مخرج الحديث في قتال الكفار ، ويدخل فيه بالمعنى هذه الأمور ، واستشهد على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام من قتل دون ماله فهو شهيد (قلت) وقد يتوقف في دخول المقاتل دون ماله في هذا الفضل لإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اعتبار الإخلاص في ذلك في قوله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، والمقاتل دون ماله لا يقصد بذلك وجه الله إنما يقصد صون ماله ، وحفظه فهو يفعل ذلك بداعية الطبع لا بداعية الشرع ، ولا يلزم من كونه شهيدا أن يكون دمه يوم القيامة كريح المسك ، وأي بذل بذل نفسه فيه لله تعالى حتى يستحق هذا الفضل ، والله أعلم .

(العاشرة) قال ابن عبد البر ويحتمل أن كل ميت يبعث على حاله التي مات عليها إلا أن فضل الشهيد أن ريح دمه كريح المسك ، وليس ذلك لغيره قال : ومن قال إن الموتى جملة يبعثون على هيئتهم احتج بحديثيحيى بن أيوب عن ابن الهادي عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري أنه لما حضرته الوفاة دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها قال : ويحتمل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد فتأوله على العموم ، ويكون الميت المذكور في حديثه هو الشهيد الذي أمر أن يزمل بثيابه ، ويدفن فيها ، ولا يغسل عنه دمه ، ولا يغير شيء من حاله بدليل حديث ابن عباس ، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا ثم قرأ كما بدأنا أول خلق نعيده وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم قال : وتأوله بعضهم على أنه [ ص: 201 ] يبعث على العمل الذي يختم له به ، وظاهره على غير ذلك انتهى (قلت) والحديث المذكور رواه أبو داود في سننه ، ويحتمل أن أبا سعيد رضي الله عنه إنما نزع الثياب التي كانت عليه لنجاسة فيها إما محققة ، وإما مشكوكة فأراد أن يكون بثياب محققة الطهارة ، وهذا من جملة الأعمال المأمور بالمحافظة عليها ، ولا سيما عند انختام الآجال فإن الإنسان محثوث على أن يختم أعماله بالصالحات في جميع الأمور فإن الأعمال ، والله أعلم .

(الحادية عشرة) استدل به على أن الشهيد لا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره ، ولو لم يكن إلا هذا لكان الاستدلال به على ذلك ضعيفا فإنه لا يلزم من غسلنا الدم إقامة لواجب التطهير والغسل ذهاب الفضل الحاصل بالشهادة ألا ترى أنه لو كان حيا لا لزم بغسله لبقاء التكليف عليه ، ومع ذلك يجيء دمه على هذه الصورة البديعة كما اقتضاه قوله كل كلم على ما قدمناه ، ولكن قد ورد الأمر بترك غسل دم الشهيد فوجب اتباعه .

(الثانية عشرة) أورد البخاري رحمه الله هذا الحديث في صحيحه في كتاب الطهارة في باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء قال ابن بطال ، وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد حديثا صحيح السند في الماء فاستدل على حكم الماء المائع بحكم الدم المائع ، وذلك هو المعنى الجامع بينهما ، وقال ابن عبد البر هذا لا يفهم منه معنى تسكن النفس إليه ، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه ، ولا يشتغل الفقهاء بمثل هذا وليس من شأن أهل العلم اللغز به ، وإشكاله ، وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه ، وبهذا أخذ الميثاق عليهم ليبيننه للناس ، ولا يكتمونه انتهى ثم اختلف من ذهب إلى هذه الطريقة في كيفية الاستدلال من هذا الحديث فحكى ابن عبد البر عن طائفة أن فيه دليلا على أن الماء إذا تغيرت رائحته بنجاسة دون لونه أن الحكم لرائحته فيكون نجسا ، ولو تغير لونه ورائحته لم يتنجس لأن دم الشهيد لما اختلف لونه ورائحته كان الحكم لرائحته ، وعكس القاضي عياض هذا الاستدلال فقال يحتج به على أن المراعى في الماء تغير لونه دون رائحته لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا الخارج من جرح الشهيد دما ، وإن كان ريحه ريح المسك ، ولم يسمه مسكا فغلب [ ص: 202 ] الاسم للونه على رائحته فكذلك الماء ما لم يتغير لونه لم يلتفت إلى تغير رائحته قال : وهذا قولنا فيما تغيرت رائحته بالمجاورة فأما بما خالطه فعبد الملك يقول لا يعتد بالرائحة ، وإنما الاعتبار باللون والطعم ومالك وجمهور أصحابه يعتبرون الرائحة كاعتبار اللون والطعم انتهى .

وما ذكره القاضي أظهر ثم إن فرض ابن عبد البر المسألة في التغير بالنجاسة غير مستقيم لأن الإجماع منعقد على أن تغير أحد الأوصاف بالنجاسة كاف في تنجيسه ، وقد نقل هو بعد ذلك هذا الإجماع ، وإنما الخلاف في التغير بالظاهر فقال جمهور أصحابنا هو كالتغير بالنجاسة يكفي فيه أحد الأوصاف الثلاثة ، وفي قول يشترط اجتماعهما ، وفي قول يكفي اللون وحده .

وأما الطعم والرائحة فلا بد من اجتماعهما فكان ينبغي لابن عبد البر أن يفرض ذلك في التغير بالطاهر الذي هو موضع الخلاف ثم ذكر القاضي عياض أن إيراد البخاري رحمه الله هذا الحديث في هذا الباب يحتمل أن يكون للرخصة في الرائحة كما تقدم ، ويحتمل أن يكون للتغليظ بعكس الاستدلال بأن الدم لما انتقل بطيب رائحته من حكم النجاسة إلى الطهارة ، ومن القذارة إلى الطيب بتغير رائحته ، وحكم له بحكم المسك فكذلك الماء ينتقل على العكس بخبث الرائحة أو تغير أحد أوصافه من الطهارة إلى النجاسة انتهى .

وجزم ابن بطال بالاحتمال الثاني واستنبط هذا الحكم من هذا الحديث ثم قال فإن قال قائل لما حكم للدم بالطهارة بتغير ريحه إلى الطيب وبقي فيه اللون والطعم ، ولم يذكر تغيرهما إلى الطيب وجب أن يكون الماء إذا تغير منه وصفان بالنجاسة وبقي وصف واحد أن يكون طاهرا يجوز الوضوء به قيل ليس كما توهمت لأن ريح المسك حكم للدم بالطهارة فكان اللون والطعم تبعا للظاهر ، وهو الريح الذي انقلب ريح مسك فكذلك الماء إذا تغير منه وصف واحد بنجاسة حلت فيه كان الوصفان الباقيان تبعا للنجاسة ، وكان الماء بذلك خارجا عن حد الطهارة لخروجه عن صفة الماء الذي جعله الله طهورا انتهى .

(الثالثة عشرة) قال القاضي عياض ويحتج به أيضا أبو حنيفة في جواز استعمال الماء المضاف المتغيرة أوصافه إلى الطيب ، وحجته بذلك تضعف .

التالي السابق


الخدمات العلمية