صفحة جزء
كتاب الحدود .

باب رجم المحصن .

عن نافع عن ابن عمر أنه قال إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ قالوا نفضحهم ويجلدن قال عبد الله بن سلام إن فيها لآية الرجم فأتوا التوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما بعدها وما قبلها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال عبد الله بن عمر : فرأيته رجلا يجنأ على المرأة يقيها الحجارة .


[ ص: 2 ] كتاب الحدود . باب رجم المحصن . عن نافع عن ابن عمر أنه قال : إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها لآية الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما بعدها وما قبلها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال عبد الله بن عمر فرأيته رجلا يحني [ ص: 3 ] على المرأة يقيها الحجارة (فيه) فوائد :

(الأولى) أخرجه الأئمة الخمسة من طريق مالك وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طريق أيوب السختياني وموسى بن عقبة ومسلم وابن ماجه من طريق عبيد الله بن عمر والنسائي في سننه الكبرى من طريق عبد الكريم الجزري كلهم عن نافع عن ابن عمر .

(الثانية) فيه وجوب حد الزنا على الكافر وبه قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والجمهور ؛ وذهب مالك إلى أنه لا حد عليه في الزنا ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس وإبراهيم النخعي .

وحكاه ابن حزم عن علي بن أبي طالب وربيعة الرأي قال ابن عبد البر قال مالك وإنما رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين ؛ لأنه لم تكن لليهود يومئذ ذمة وتحاكموا إليه ، وقال الطحاوي لما ذكر كلام مالك هذا لو لم يكن واجبا عليهم لما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم قال وإذا كان من لا ذمة له قد حده النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا فمن له ذمة أحرى بذلك وقال المازري بعد ذكره حمل مالك هذا على أنه لم تكن له ذمة فكان دمه مباحا لكنه يعترض على هذا عندي برجمه للمرأة ولعله يقول كان ذلك قبل النهي عن قتل النساء وذكر أبو العباس القرطبي أنه روى الطبري وغيره أن الزانيين كانا من أهل فدك وخيبر وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة ليسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم سلوا محمدا عن هذا فإن أفتاكم بغير الرجم فحدوا به وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قال القرطبي وهذا الاعتذار يحتاج إلى اعتذار بعد صحة الحديث فإن مجيئهم سائلين يوجب عهدا لهم كما إذا دخلوا بلادنا لغرض مقصود من تجارة أو رسالة أو نحوهما فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى مأمنهم ولا يحل قتلهم ولا أخذ مالهم قاله القاضي أبو بكر بن العربي .

وقال النووي في شرح مسلم بعد نقله عن مالك أنه إنما رجمهما ؛ لأنهما لم يكونا أهل ذمة وهذا تأويل باطل ؛ لأنهما كانا من أهل العهد ؛ ولأنه رجم المرأة ، والنساء لا يجوز قتلهن مطلقا انتهى .

فهذا الجواب عن كونهما حربيين وأما الجواب .

[ ص: 4 ] عن التحاكم إليه فإن مذهب مالك أن الحاكم بعد ترافع أهل الذمة إليه مخير بين أن يحكم فيهم بحكم الله وبين أن يعرض عنهم فاختار عليه الصلاة والسلام الحكم بينهم فهو أن ذلك لا يستقيم على مذهب مالك ؛ لأن شرط الإحصان عنده الإسلام وليس موجودا في هذين الزانيين فليس حكم الشرع عنده رجمهما فكيف يقال حكم فيهم بحكم الله وكيف المخلص عندهم عن هذا الحديث بهذا الكلام ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي جاءوا محكمين له في الظاهر ومختبرين في الباطن هل هو نبي حق أو مسامح في الحق فقبل النبي صلى الله عليه وسلم إفتاءهم وتأمل سؤالهم وهذا يدل على أن التحكيم جائز في الشرع انتهى .

(قلت) التحكيم إنما يكون لغير الحكام فأما الحكام فحكمهم بالولاية لا بطريق التحكيم والله أعلم .

وقال ابن عبد البر إن قال قائل ليس في حديث ابن عمر أن الزانيين حكما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رضيا بحكمه قيل له حد الزاني حق من حقوق الله على الحاكم إقامته وقد كان لليهود حاكم فهو الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اعتبار بتحكيم الزانيين انتهى بمعناه وهو مردود لما قلناه من أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم بطريق النبوة لا بالتحكيم والله أعلم .

ثم اعلم أن ما حكيناه عن مذهبنا وغيره من إقامة حد الزنا على الكافر محله في الذمي دون الحربي .

أما المعاهد أو من دخل بأمان إذا زنا بمسلمة فلأصحابنا فيه طريقان :

(أحدهما) : أن فيه ثلاثة أقوال كالخلاف في قطعه بالسرقة (أظهرهما) لا حد عليه و (الثاني) نعم و (الثالث) إن شرط عليه في العهد حد وإلا فلا و (الطريقة الثانية) القطع بأنه لا حد ؛ لأنه محض حق الله تعالى لا يتعلق بطلب آدمي وخصومته وهذا موافق لنقل العراقيين والبغوي وعند الحنفية في ذلك خلاف قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا يحد الداخل بأمان في الزنا وقال أبو يوسف يحد إذا زنا بذمية .

(الثالثة) وفيه أنه ليس من شروط الإحصان المقتضي للرجم (الإسلام) فإذا وطئ الذمي في نكاح صحيح وهو بالغ عاقل حر صار محصنا يجب رجمه إذا زنا وبهذا قال الشافعي وأحمد وهو رواية عن أبي يوسف وقال مالك وأبو حنيفة لا يرجم الذمي ؛ لأن من شروط الإحصان الإسلام قالوا : وكان الرجم بحكم التوراة لا بهذه الشريعة ثم نسخ ذلك بالحد المعروف فإن هذا [ ص: 5 ] كان قبل مشروعيته وهذا مردود ، فلا دليل على أن الإسلام من شروط الإحصان والأصل عدم النسخ ومع ذلك فلا يصار إليه إلا عند معرفة التاريخ وكيف يصح أن يحكم عليه الصلاة والسلام بحكم التوراة مع قوله تعالى وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط وهو العدل المنزل عليه بدليل قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله وكيف نجعل الحدود ناسخة لهذا الحكم وهي موافقة له ولا بد من مضادة حكم الناسخ والمنسوخ .

وقال الخطابي وهذا تأويل غير صحيح ؛ لأن الله يقول وأن احكم بينهم بما أنزل الله وإنما جاءه القوم مستفتين طمعا في أن يرخص لهم في ترك الرجم ليعطلوا به حكم التوراة فأشار إليهم صلى الله عليه وسلم بما كتموه من حكم التوراة ثم حكم عليهم بحكم الإسلام لشرائطه الواجبة فيه وليس يخلو الأمر فيما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك عن أن يكون موافقا لحكم الإسلام أو مخالفا له فإن كان مخالفا فلا يجوز أن يحكم بالمنسوخ ويترك الناسخ وإن كان موافقا له فهو شريعته والحكم الموافق لشريعته لا يجوز أن يكون مضافا إلى غيره ولا يكون فيه تابعا لما سواه ثم أجاب عن قوله في حديث أبي هريرة فإني أحكم بما في التوراة بأن فيه رجلا لا يعرف قال وقد يحتمل أن يكون معناه احكم بما في التوراة احتجاجا به عليهم وإنما حكم بما في دينه وشريعته وذكره التوراة لا يكون علة للحكم انتهى .

وقال ابن عبد البر على هذا عندنا كان حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم على اليهوديين أي بشريعتنا ؛ لأنه قد رجم ماعزا وغيره من المسلمين ومعلوم أنه إنما رجم من رجم من المسلمين بأمر الله وحكمه ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يتقدم بين يدي الله ، وإنما يحكم بما أراه الله فوافق ذلك ما في التوراة وقد كان عنده بذلك علم ولذلك سألهم عنه ثم قال بعد ذلك وكلهم أي الفقهاء يشترط في الإحصان الموجب للرجم الإسلام هذا من شروطه عند جميعهم ومن رأى رجم أهل الذمة منهم إذا أحصنوا إنما رآه من أجل أنهم إذا تحاكموا إلينا لزمنا أن نحكم بينهم بحكم الله فينا وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين المذكورين انتهى .

وهو مردود نقلا ومعنى فنقله عن جميع الفقهاء اشتراط الإسلام في الإحصان مخالف لمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وقوله إذا ترافعوا إلينا لزمنا [ ص: 6 ] أن نحكم فيهم بحكم الإسلام يقال له حكم الإسلام عندك أن لا رجم على الكافر لعدم إحصانه فكيف تقول إن رجمهم بحكم الإسلام مع اشتراطه الإسلام في الإحصان ثم قال بعد ذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في التوراة مخصوص له والله أعلم بدليل قوله عز وجل يحكم بها النبيون ؛ ولأنا لا نعلم ما عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى .

وهو مردود في نفسه ومخالف لما قدمه وقال ابن العربي في شرح الترمذي بعد حكايته في ذلك ثلاثة أقوال : (أحدها) : أنه حكم بينهم بحكم المسلمين ، وليس الإسلام شرطا في الإحصان .

(الثاني) : حكم بينهم بشريعة موسى وشهادة اليهود .

(الثالث) : قال في كتاب محمد إنما حكم بينهم ؛ لأن الحدود لم تكن نزلت ولا نحكم اليوم إلا بحكم الإسلام فقال ابن العربي ما حكم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بحكم الإسلام وذلك ؛ لأن سياق الحديث لا يقتضي إلا الحكم بحكم الإسلام وكذلك دليل القرآن وهو قوله فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط أي العدل وإذا جاءنا اليهود واعترفوا عندنا بالزنا وأردنا أن نحكم بينهم بالحق رجمناهم وإلا لم نتعرض لهم انتهى .

وفي سنن أبي داود من حديث ابن إسحاق عن الزهري قال سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال زنا رجل وامرأة من اليهود وقد أحصنا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وذكر الحديث فصرح في هذه الرواية بأنهما كانا محصنين .

(الرابعة) : إن قلت كيف ثبت زناهما أبإقرارهما أم ببينة ؟ (قلت) في سنن أبي داود من حديث جابر في هذه القصة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله (فدعا بالشهود) يعني شهود الإسلام على اعترافهما ، وقوله في بعض طرق الحديث فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة اليهود يعني بحضورهم وقال ابن عبد البر كان الحكم فيهم بشهادة لا باعتراف ، وذلك محفوظ من حديث جابر وقال أبو العباس القرطبي الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته لا على مسلم ولا على كافر ولا فرق بين الحدود وغيرها ولا بين السفر والحضر وقبل شهادتهم جماعة من التابعين وأهل الظاهر إذا لم يوجد مسلم وقال أحمد بن حنبل تجوز شهادة [ ص: 7 ] أهل الذمة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين قال ويعتذر للجمهور عن رجم النبي صلى الله عليه وسلم الزانيين عند شهادة اليهود بأنه عليه الصلاة والسلام نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزاما للحجة عليهم وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم فكان منفذا لا حاكما قال وهذا يمشي على تأويل الشافعي المتقدم وأما على ما قررناه من أنه عليه الصلاة والسلام كان حاكما في القضية بحكم الله فيكون العذر عن سماع شهادة اليهود أن ذلك كان خاصا بتلك الواقعة إذ لم يسمع في الصدر الأول من قبل شهادتهم في مثل ذلك انتهى .

وهو مردود ولا يجوز أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام قبل غير المسلمين بمجرد الاحتمال من غير تصريح بذلك ولو نقل مثل هذا عن أحد الحكام من غير دليل لكان ذلك في غاية القبح فكيف بسيد الحكام أو مشرع الأحكام والله أعلم .

وقال النووي الظاهر أن رجمهما بالإقرار ثم ذكر حديث أبي داود المتقدم ثم قال : فإن صح هذا فإن كان الشهود مسلمين فظاهر وإن كانوا كفارا فلا اعتبار بشهادتهم ويتعين أنهما أقرا بالزنا .

(الخامسة) : فيه رجم الزاني المحصن في الجملة ، وهو مجمع عليه وقال ابن عبد البر هو أمر أجمع أهل الحق عليه وهم الجماعة أهل الفقه والأثر ولا يخالف فيه من بعده أهل العلم خلافا ، وقال النووي لم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة إلا ما حكاه القاضي عياض وغيره عن الخوارج وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه ، فإنهم لم يقولوا بالرجم .

(السادسة) : وفيه الاقتصار على رجم الزاني المحصن وأنه لا يضم إلى ذلك الجلد وبه قال الجمهور وعن أحمد رواية أنه يجلد ثم يرجم وحكي عن علي والحسن البصري وإسحاق بن راهويه وداود وبعض الشافعية وعن طائفة من أهل الحديث أنه يجب الجمع بينهما وجوبا إذا كان الزاني شيخا ثيبا فإذا كان شابا ثيبا اقتصر على الرجم .

(السابعة) : وفيه أن أنكحة الكفار صحيحة ولولا صحة أنكحتهم لما ثبت إحصانهم وبه قال الجمهور وقال أكثر الشافعية هي محكوم بصحتها ، وقال بعضهم هي فاسدة وقال آخرون : لا يحكم بصحتها ولا بفسادها بل يتوقف إلى الإسلام فما قرر عليه بانت صحته وإلا بان فساده .

(الثامنة) : وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع . [ ص: 8 ] الشريعة وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور وقال الحنفية : إنهم غير مخاطبين بها وقال بعضهم : هم مخاطبون بالنواهي دون الأوامر .

(التاسعة) : قوله عليه الصلاة والسلام ما تجدون في التوراة في شأن الرجم : قال النووي قال العلماء هذا السؤال ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم وإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم ولعله صلى الله عليه وسلم قد أوحى إليهم أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيروا أشياء أو أنه أخبره بذلك من أسلم منهم ولهذا لم يخف ذلك عليه حين كتموه وقال أبو العباس القرطبي : لا يلزم أن يكون طريق حصول العلم بذلك له قول ابني صوريا بل الوحي أو ما ألقى الله في روعه من يقين صدقهما فيما قالاه من ذلك .

(العاشرة) : قوله (نفضحهم) : بفتح النون أوله والضاد المعجمة ثالثة ولعل الفضيحة هنا ما أوضحه في رواية عبيد الله بن عمر عند مسلم بقوله نسود وجوههما ونحممهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما .

(الحادية عشرة) : قد يقال إن في جوابهم حودا عن سؤاله عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه سألهم عما يجدون في التوراة في شأن الرجم فأعرضوا عن جواب هذا وذكروا ما يفعلونه بالزناة من الفضيحة والجلد ولكن الظاهر أنهم إنما ذكروا ذلك حاكين له عن التوراة ويدل لذلك قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه لهم كذبتم إن فيها لآية الرجم فلولا حكايته لذلك عن التوراة لم يتوجه لابن سلام عليهم هذا الكلام ، وفي ذلك بيان كذبهم على التوراة وتغييرهم أحكامها ونسبتهم إليها ما ليس فيها وكتمانهم الحق الذي فيها .

(الثانية عشرة) : استدل به بعضهم على أن أهل الكتاب لم يسقطوا شيئا من التوراة ولا غيروا شيئا من ألفاظها وإنما كان تحريفهم لمعانيها وكذبهم في أن يضعوا من عند أنفسهم أشياء وينسبونها إلى أنها من التوراة من غير أن يضعوها فيها كما قال تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا والذاهبون إلى تحريفهم لألفاظها قالوا لم يكن هذا مما حرفوه وقد حرفوا غيره وقد سمعت أن في التوراة الموجودة بأيديهم الآن شيئا يدل على نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام ونسخ شريعتهم لم يغيروه فهم .

[ ص: 9 ] يتكاتمونه وكأن الله تعالى منع سلفهم من تغييره إقامة للحجة على خلفهم فلعنة الله على الضالين وقال ابن عبد البر فيه دليل على أن التوراة صحيحة بأيديهم ولولا ذلك ما سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ولا دعا بها (قلت) : لا يدل سؤاله عنها ولا دعاؤه لها على صحة جميع ما فيها ، وإنما يدل على صحة المسئول عنه منها ، علم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بوحي أو بإخبار من أسلم منهم فأراد بذلك تبكيتهم وإقامة الحجة عليهم في مخالفتهم كتابهم وكذبهم عليه واختلاقهم ما ليس فيه وإنكارهم ما هو فيه والله أعلم .

(الثالثة عشرة) : لم أقف على تسمية اليهودي الزاني وذكر أبو العباس القرطبي أن اسم المرأة الزانية بسرة وظاهر سياقه أن الطبري روى ذلك والواضع يده على آية الرجم هو عبد الله بن صوريا كما هو في سيرة ابن إسحاق وغيرها .

(الرابعة عشرة) : قوله ( يجنأ على المرأة ) : ضبطناه عن شيخنا والدي رحمه الله بفتح أوله وإسكان الجيم وفتح النون وآخره همزة وهو الذي قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة إنه الجيد في الرواية وقال ابن عبد البر : إنه الصواب عند أهل اللغة فإنه نقل أولا أن الذي عند أكثر شيوخهم عن يحيى بن يحيى (يحني) يعني بفتح أوله وإسكان الحاء المهملة وكسر النون بلا همز قال وكذلك قال القعنبي وابن بكير بالحاء وقد قيل عن كل واحد منهم بالجيم (يجني) : قلت وظاهره أنه كالذي قبله إلا في الجيم فيكون بكسر النون وآخره ياء قال ابن عبد البر وقال أيوب عن نافع يجانئ عنها بيده وقال معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر فجافى بيده والصواب فيه عند أهل اللغة يجنأ بالهمز أي يميل عليها يقال من جنأ يجنأ جناء وجنوءا إذا مال ويجنئ ويجنأ بمعنى واحد انتهى كلام ابن عبد البر .

وقال القاضي عياض في المشارق قوله يجنأ يعني بفتح أوله وبالجيم وبالهمزة آخره كذا للأصيلي عن المروزي ولأحمد بن سعيد في الموطإ وقيده الأصيلي بالحاء عن الجرجاني وبالجيم وفتح الياء هو عند الحميدي ووقع للمستملي في موضع كذلك وكذا قيد عن ابن الفخار لكن بغير همز وكذا قيدناه في الموطإ من طريق الأصيلي بالجيم مضموم الياء مهموزا ورأيت في أصل أبي الفضل (يجنأ) بفتح الياء ثم جيم ثم همزة ويجب ذلك يجبأ بجيم ثم باء معجمة موحدة ثم همزة أي يركع عليها . [ ص: 10 ] وبالجيم والحاء معا مهموز لكن بفتح الياء وقيدناه عن ابن القابسي عن ابن شميل وبالحاء وحدها قيدناه عن ابن عتاب وابن أحمد وابن عيسى مفتوح الأول قال : أبو عمر وهو أكثر روايات شيوخنا عن يحيى وكذا رواية ابن قعنب وابن بكير وبعضهم قيده بفتح الحاء وشد النون يحني ورواه بعضهم بفتح الياء وسكون الحاء وفتح النون وهمزة بعدها وجاء للأصيلي في باب آخر (فرأيته أجنأ) بالهمز والجيم وهو عند أبي ذر أحنأ [ بالحاء ] وقد روي في غير هذه الكتب يحنو والصحيح من هذا كله ما قاله أبو عبيد يجنأ ومعناه ينحني يقال من ذلك جنأ يجنأ قاله صاحب الأفعال وقال الزبيدي حني بكسر النون في الماضي يحنو ويحني أي يعطف عليها يقال حني يحني ويحنو ومنه قوله صلى الله عليه وسلم وأحناهن على ولد : ويكون أيضا يحني عليها ظهره فيكون بمعنى ما قاله أبو عبيد وكذلك [ قول ] من قال يحنئ على معنى يجعل ظهره كذلك ، ويفعله به حتى يحني ، تعدية حنأ الرجل يحنأ إذا صار كذلك قال الأصمعي أجنأت الترس جعلته مجنأ أي محدودبا وهذا مثله ا هـ . وكلام القاضي عياض وقال صاحب النهاية قوله (يجنئ عليها) : أي بضم أوله وإسكان الجيم وكسر النون وآخره همزة أي يكب ويميل عليها ليقيها الحجارة أجنأ يجنئ إجناء وفي رواية أخرى يجانئ عليها مفاعلة من جانأ يجانئ ثم قال قال الخطابي الذي جاء في كتاب السنن يجنئ بالجيم والمحفوظ إنما هو يحني بالحاء أي يكب عليها يقال حنا يحنا حنوا (قلت) : والذي رأيته في كلام الخطابي في معالم السنن عكس هذا فقال هكذا قال يجنأ والمحفوظ إنما هو يحنأ أي يكب عليها يقال حنا الرجل يحنو حنوا إذا أكب على الشيء قال كثير :

أعـــزة لـــو شـــهدت غــداة بنتــم جـــنوء العـــائدات علـــى وســـادي

ويدل على أن التحريف لكلام الخطابي حصل لصاحب النهاية لأن الجوهري أنشد هذا البيت جنوء بالجيم وقد ذكر أن المحفوظ ما أنشد عليه . [ ص: 11 ] هذا البيت والله أعلم .

وقد صرح بذلك في أعلام الجامع الصحيح فقال قوله يحني عليها رواه بالحاء وأكثر الرواة يجعلونها بالجيم والهمز يجنأ عليها أي يميل عليها وأنشد الشيخ تقي الدين في شرح العمدة هذا الشعر بالحاء وهو خلاف المعروف وحصل مما حكيناه في ضبط هذه اللفظة ثمانية أوجه :

(الأول) : يجنأ بفتح الياء وإسكان الجيم وفتح النون وآخره همزة .

(الثاني) : يجني كالذي قبله إلا أنه بضم أوله وكسر النون .

(الثالث) : يجني بفتح أوله وكسر النون بلا همز .

(الرابع) : مثل الأول يجبأ إلا أنه بالباء بدل النون .

(الخامس) : يحني بفتح أوله وإسكان الحاء المهملة وكسر النون وآخره ياء .

(السادس) : كالذي قبله إلا أنه بالواو آخره .

(السابع) : [ يحنأ ] كالخامس إلا أنه بفتح النون وآخره همزة .

(الثامن) : يحني بضم أوله وفتح الحاء المهملة وكسر النون وتشديدها فالأربعة الأول بالجيم والأربعة الأخيرة بالحاء المهملة وتقدم أنه روي يجانئ بالجيم والنون والهمز في آخره ويجافي بالجيم والفاء والياء في آخره فكملت بذلك عشرة والله أعلم .

وزعم أبو العباس القرطبي أن الوجه الخامس هو الصواب وأن الثالث ليس بصواب .

(الخامسة عشر) فيه أنه لم يحفر لهما لما رجما إذ لو حفر لهما لما تمكن أن يجنأ عليها وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم إلى أنه لا يحفر للرجل ولا للمرأة وقال قتادة وأبو ثور وأبو يوسف وأبو حنيفة في رواية يحفر لهما وقال بعض المالكية يحفر لمن يرجم بالبينة دون من يرجم بالإقرار وقال أصحابنا الشافعية لا يحفر للرجل سواء ثبت زناه بالبينة أو الإقرار وفي المرأة ثلاثة أوجه (أصحها) : أنه إن ثبت زناها بالبينة استحب أو بالإقرار فلا (والثاني) : يستحب الحفر لها إلى صدرها ليكون أستر (والثالث) : لا يستحب ولا يكره بل هو إلى خيرة الإمام .

(السادسة عشرة) : وفيه أيضا أنه لا تربط يداه ولا يشدان لقوله في رواية أخرى يجاني عنها بيده وهو واضح .

التالي السابق


الخدمات العلمية