صفحة جزء
(باب السلام والاستئذان) : عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير : لم يقل مسلم الصغير على الكبير والمار : وإنما قال الماشي : ولهما في رواية يسلم الراكب على الماشي : .


باب السلام والاستئذان (الحديث الأول)

عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير : (فيه) فوائد :

(الأولى) : أخرجه أبو داود من طريق عبد الرزاق والبخاري والترمذي من طريق عبد الله بن المبارك كلاهما عن معمر عن همام بلفظ يسلم وكذلك علقه البخاري بهذا اللفظ من طريق عطاء بن يسار واتفق عليه الشيخان وأبو داود من طريق ثابت مولى عبد الرحمن بن يزيد [ ص: 100 ] بلفظ يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير وأخرجه الترمذي من رواية الحسن البصري كلهم عن أبي هريرة وقال الترمذي في رواية همام هذا حديث صحيح وقال في رواية الحسن قد روي من غير وجه عن أبي هريرة وقال أيوب السختياني ويونس بن عبيد وعلي بن زيد إن الحسن لم يسمع من أبي هريرة .

(الثانية) : قد اشتملت هذه الروايات على أربعة أمور تسليم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير فأما تسليم الراكب على الماشي فقال المازري في تعليله ذلك لفضل الراكب عليه من باب الدنيا فعدل الشرع بأن جعل للماشي فضيلة أن يبدأ واحتياطا على الراكب من الكبر والزهو إذا حاز الفضيلتين قال : ولهذا المعنى أشار بعض أصحابنا .

وأما تسليم الماشي على القاعد فقال المازري لم أر في تعليله نصا وقد يحتمل أن يجري في تعليله على هذا الأسلوب فيقال إن القاعد قد يتوقع شرا من الوارد عليه أو يوجس في نفسه خيفة فإذا ابتدأه بالسلام أنس إليه ؛ ولأن التصرف والتردد في الحاجات الدنيوية وامتهان النفس فيها ينقص من مرتبة المتماوتين الآخذين بالعذلة تورعا فصار للقاعدين من المزية في باب الدين ؛ فلهذا أمر ببداءتهم ؛ أو لأن القاعد يشق عليه مراعاة المارين مع كثرتهم والتشوف إليهم فسقطت البداءة عنه وأمر بها المار لعدم المشقة عليه .

وهذب أبو العباس القرطبي هذه المعاني المذكورة مع اختصار فقال : وأما الماشي فقد قيل فيه مثل ذلك أي مثل ما قيل في الراكب من علو مرتبته وأنه أبعد له عن الزهو قال : وفيه بعد إذ الماشي لا يزهو بمشيه غالبا وقيل هو معلل بأن القاعد قد يقع له خوف من الماشي فإذا بدأه بالسلام أمن ذلك وهذا أيضا بعيد إذ لا خصوصية للخوف بالقاعد فقد يخاف الماشي من القاعد وأشبه من هذا أن يقال إن القاعد على حال وقار وسكون وثبوت فله [ ص: 101 ] بذلك مزية على الماشي ؛ لأن على العكس من ذلك انتهى .

وأما تسليم القليل على الكثير فقد قال المازري يحتمل أن يكون أيضا الفضيلة للجماعة ؛ ولهذا قال الشرع عليكم بالسواد الأعظم .

ويد الله مع الجماعة : فأمر ببداءتهم لفضلهم ؛ أو لأن الجماعة إذا بدءوا الواحد خيف عليه الكبر والزهو فاحتيط له بأن لا يبدأ ويحتمل غير ذلك لكن ما ذكرناه هو الذي يليق بما قدمناه عنهم من التعليل انتهى .

وأما تسليم الصغير على الكبير فلم يذكره مسلم في صحيحه ، وهو عند البخاري كما تقدم وسببه أنه إجلال من الصغير للكبير وتعظيم له ؛ لأن السن الحاصل في الإسلام مرعي في الشرع يحصل به التقديم في أمور كثيرة معروفة والله أعلم .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي لا حاجة إلى الأخذ في حكمته وعارضت الحال أن المفضول بنوع من الفضائل قد يبدأ الفاضل به وقال المازري بعد ذكره ما قدمناه عنه ولا تحسن معارضة مثل هذه التعاليل بآحاد مسائل شذت عنها ؛ لأن التعليل الكلي لا يطلب فيه أن لا يشذ عنه بعض الجزئيات وقال أبو العباس القرطبي هذه المعاني التي تكلف العلماء إبرازها هي حكم يناسب المصالح المحسنة والمكملة ولا نقول إنها نصبت نصب العلل الواجبة الاعتبار حتى لا يجوز أن يعدل عنها فنقول : إن ابتداء القاعد للماشي لا يجوز وكذلك ابتداء الماشي الراكب بل يجوز ذلك ؛ لأنه مظهر للسلام ومفش له كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله أفشوا السلام بينكم : وبقوله إذا لقيت أخاك فسلم عليه : .

وإذا تقرر هذا فكل من الماشي والقاعد مأمور بأن يسلم على أخيه إذا لقيه غير أن مراعاة تلك المراتب أولى والله أعلم .

(قلت) : متى تمكن المأمور من هذه الأحاديث بالابتداء منه فلم يبتدئ كان تاركا للسنة وأما الآخر فلا حرج عليه في المبادرة ؛ لأن الأمر بالابتداء لم يتوجه إليه وقد بادر إلى فعل خير .

(الثالثة) : قوله ليسلم الصغير على الكبير : صريح في الأمر وتبين به أن قوله في رواية الصحيحين وغيرهما يسلم لفظه خبر ومعناه الأمر كقوله تعالى والوالدات يرضعن وهو أمر استحباب قال النووي هذا كله للاستحباب فلو عكس جاز وكان خلاف الأفضل (قلت) الظاهر أن الواقع في مخالفة الأفضل إنما هو المأمور بالابتداء دون الآخر كما قدمته [ ص: 102 ] والله أعلم .

(الرابعة) : الظاهر أن المراد الصغر في السن وقد يراد الصغر في القدر فقد يتميز صغير السن على كبيره بأمور ترجحه عليه وقد يقال المراد صغر السن وأما صغر القدر فملحق به وحينئذ فلو تعارضا قدم صغر السن المنصوص على صغر القدر : المقيس والمراد السن الحاصل في الإسلام كما اعتبره الفقهاء في التقديم للإمامة في الصلاة بكبر السن قال المازري ، وإذا تلاقى رجلان كلاهما مار في الطريق بدأ الأدنى منهما الأفضل إجلالا للفضل وتعظيما للخير ؛ لأن فضيلة الدين مرعية في الشرع مقدمة .

(الخامسة) : هل يستوي الراكبان أو يراعى علو أحدهما فيسلم حينئذ راكب الجمل على راكب الفرس وراكب الفرس على راكب الحمار ، لم أر لأحد لذلك تعرضا والظاهر أن مثل ذلك لا يعتبر وقد يكون أحد المركوبين أعلا من الآخر مع استواء جنسهما ولا شك في أن ذلك غير منظور إليه والله أعلم .

(السادسة) : فلو تساوى المتلاقيان في الأمور المنصوص عليها في الحديث كان كل منهما محثوثا على المبادرة للابتداء بالسلام لقوله عليه الصلاة والسلام وخيرهما الذي يبدأ بالسلام : وقال أبو العباس القرطبي الناس في الابتداء بالسلام إما أن تتساوى أحوالهم أو تتفاوت فإن تساوت فخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام غير أن الأولى مبادرة ذوي المراتب الدينية كأهل العلم والفضل احتراما لهم وتوقيرا وأما ذوو المراتب الدنيوية المحضة فإن سلموا رد عليهم ، وإن ظهر عليهم إعجاب أو كبر فلا يسلم عليهم ؛ لأن ذلك معونة لهم على المعصية ، وإن لم يظهر ذلك عليهم جاز أن يبدءوا بالسلام وابتداؤهم بالسلام أولى بهم ؛ لأن ذلك يدل على تواضعهم انتهى .

وما ذكره فيما إذا ظهر عليهم إعجاب أن يترك الرد محتمل وقد يقال بل الأولى السلام عليهم إقامة لمشروعية الإسلام وإرغاما لهم والمعصية بترك الرد هي منهم لا مدخل لنا فيها ونظير هذين الاحتمالين ما ذكره الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام في الملوك الذين اعتادوا أن لا يشمتوا إذا عطسوا أنه يحتمل ترك تشميتهم ؛ لأن ذلك حق لهم ، والحظ لهم فيه فإذا لم يرضوه لم يعطوه ويحتمل فعله معهم إقامة للسنة وإرغاما لهم والله أعلم .

(السابعة) : لو تعارضت الأمور المذكورة [ ص: 103 ] في الحديث بأن يمر كبير بصغير قاعد فهل تكون السنة ابتداء المار مع كونه كبيرا أو ابتداء الصغير مع كونه قاعدا ؟ وكذا لو مر جماعة كثيرون بجمع قليل ذهب النووي في مثل هذا إلى النظر إلى المرور ، فقال فلو ورد على قاعد أو قعود فإن الوارد يبدأ سواء كان صغيرا أم كبيرا قليلا أم كثيرا . .

(الثامنة) : فيه مشروعية السلام في الجملة وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن ابتداءه سنة وأن رده فرض وكلام المازري يشعر بخلاف في ذلك فإنه قال بعد ذكره ذلك هذا هو المشهور عند أصحابنا وأثبت أبو العباس القرطبي ذلك قولا للعلماء ومتى كان المسلم جماعة فهو سنة كفاية في حقهم إذا سلم بعضهم حصلت سنة السلام في حق جميعهم وكذا إذا كان المسلم عليه جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم فإذا رد واحد منهم سقط الحرج عن الباقين والأفضل أن يبتدئ الجميع بالسلام وأن يرد الجميع وعن أبي يوسف أنه لا بد أن يرد الجميع .

(التاسعة) : كيفية السلام المأمور به له أقل وأكمل فأقله السلام عليكم أو سلام عليكم والأول أفضل ، وإن كان المسلم عليه واحدا فيكفي سلام عليك والأفضل عليكم ليتناوله وملائكته ولو قال عليكم السلام كره لكن الصحيح عند أصحابنا أنه سلام يستحق جوابا وقيل لا يستحقه وقد قال عليه الصلاة والسلام لا تقل عليك السلام فإن عليك تحية الموتى : وأكمله أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بالواو فلو حذفها جاز ، وكان تاركا للأفضل ولو اقتصر على وعليكم السلام أو على عليكم السلام أجزأه ولو اقتصر على عليكم لم يجزه بلا خلاف ولو قال وعليكم بالواو ففي إجزائه وجهان لأصحابنا .

(العاشرة) : اختلف في معنى السلام فقيل هو اسم الله تعالى ويدل لذلك ما في سنن أبي داود وغيره عن المهاجر بن منقذ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال إني كرهت أن أذكر اسم الله إلا على طهر أو قال على طهارة .

وفي معجم الطبراني ومعالم السنن للخطابي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن السلام اسم من أسماء [ ص: 104 ] الله تعالى فأفشوه بينكم : وعلى هذا فمعناه اسم الله عليك أي أنت في حفظه كما يقال الله معك والله يصحبك وقيل معناه الله مطلع عليكم فلا تغفلوا وقيل معناه اسم السلام عليكم أي اسم الله عليكم أي إذا كان اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها وقيل السلام بمعنى السلامة أي السلامة ملازمة لك وقال بعضهم كأن المسلم بسلامه على غيره معلم له بأنه مسالم له حتى لا يخافه .

التالي السابق


الخدمات العلمية