صفحة جزء
(الأسماء) عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه رجل كان تسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله وقال البخاري أخنأ الأسماء وفي رواية له أخنع الأسماء .


(الأسماء)

(الحديث الأول) عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه رجل كان تسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله (فيه) فوائد : .

(الأولى) أخرجه مسلم من هذا الوجه من طريق عبد الرزاق وأخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي من طريق سفيان بن عيينة والبخاري وحده من طريق شعيب بن أبي حمزة كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله قال سفيان : مثل (شاهان شاه) وقال أحمد بن حنبل : سألت أبا عمرو عن أخنع فقال (أوضع) لفظ مسلم ولم يذكر البخاري وأبو داود والترمذي ما بعد قوله الأملاك .

وقال أبو داود والترمذي (يوم القيامة) إلا أن في رواية البخاري قال سفيان : فقول غيره شاهان شاه وفي رواية الترمذي قال سفيان : شاهان شاه ثم [ ص: 149 ] قال الترمذي (وأحرج) يعني أقبح ولفظ البخاري من طريق شعيب بن أبي حمزة أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل تسمى ملك الأملاك .

(الثانية) قوله أغيظ رجل على الله يوم القيامة .

قال القاضي عياض والنووي كذا وقع في جميع النسخ بتكرير أغيظ قال القاضي : ليس تكريره وجه الكلام ، قال : وفيه وهم من بعض الرواة بتكريره أو تغييره قال : وقال بعض الشيوخ : لعل أحدهما أغنط بالنون والطاء المهملة أي أشده عليه والغنط شدة الكرب وكلا اللفظين مشكل المعنى ، وحكاه عنه النووي ولم يعترضه إلا أنه لم يذكر قوله وكلا اللفظين مشكل المعنى ، وقال أبو العباس القرطبي : ذهب بعض العلماء إلى أن ذلك وهم والصواب أغنط بالنون والطاء المهملة .

قال القرطبي : والصواب التمسك بالرواية وتطريق الوهم للأئمة الحفاظ وهم لا ينبغي المبادرة إليه ما وجد للكلام وجه ، ويمكن أن يحمل على إفادة تكرار العقوبة بعد العقوبة على المسمى بذلك الاسم ، وتعظيمها كما قال تعالى في حق اليهود فباءوا بغضب على غضب أي بما يوجب العقوبة بعد العقوبة وكذلك فعل الله بهم عاقبهم في الدنيا بأنواع من العقوبات ولعذاب الآخرة أخزى ، قال : وحاصل هذا الحديث أن المسمى بهذا الاسم قد انتهى من الكبر إلى الغاية التي لا تنبغي لمخلوق وأنه قد تعاطى ما هو خاص بالإله الحق إذ لا يصدق هذا الاسم بالحقيقة إلا على الله تعالى فعوقب على ذلك من الإذلال والإخساس والاسترذال بما لم يعاقب به أحد من المخلوقين . انتهى .

(الثالثة) قال المازري أغيظ هنا مصروف عن ظاهره والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالغيظ فيتأول هنا الغيظ على الغضب وسبق شرح معنى الغضب والرحمة في حق الله تعالى .

(الرابعة) وأما قوله في الرواية الأخرى أخنع اسم عند الله فهو بالخاء المعجمة والنون والعين المهملة وهو في الصحيحين ، وإن كان لفظ الشيخ رحمه الله في النسخة الكبرى يقتضي أنه عند البخاري فقط ، وقد عرفت أنه في صحيح مسلم عن أبي عمرو أنه بمعنى أوضع وأبو عمرو هذا إسحاق بن مرار بكسر الميم على وزن قتال ، وقيل : مرار بفتحها وتشديد الراء كعمار وقيل بفتحها وتخفيف الراء كغزال .

قال النووي وهو [ ص: 150 ] أبو عمرو اللغوي النحوي المشهور ، وليس بأبي عمرو الشيباني ذاك تابعي كوفي قبل ولادة أحمد بن حنبل . (قلت) هذه عبارة موهمة توهم أنه أبو عمرو بن العلاء شيخه ، وتوهم أن هذا اللغوي ليس شيبانيا وليس كذلك بل هو مشهور بأبي عمرو الشيباني أيضا إلا أن بعضهم قال : لم يكن شيبانيا ولكنه كان مؤدبا لأولاد ناس من بني شيبان فنسب إليهم ، والله أعلم .

وقد عرفت أن الترمذي فسر أخنع بأقبح قال النووي وهذا التفسير الذي فسره أبو عمرو مشهور عنه وعن غيره قالوا : ومعناه أشد ذلا وصغارا يوم القيامة والمراد صاحب الاسم وتدل عليه الرواية الأخرى أغيظ رجل ، قال القاضي عياض : وقد يستدل به على أن الاسم هو المسمى وفيه الخلاف المشهور ، وقيل : أخنع بمعنى أفجر ، يقال : خنع الرجل إلى المرأة والمرأة إليه أي دعاها إلى الفجور وهو بمعنى أخبث أي أكذب الأسماء ، وفي رواية للبخاري أخنى قال الخطابي : إن كان محفوظا فمعناه أفحش الأسماء وأقبحها من الخنا وهو الفحش .

وقال النووي : هو بمعنى ما سبق أي أفحش وأفجر والخنا الفحش قال : وقد يكون بمعنى أهلك لصاحبه المسمى به ، والإخناء الإهلاك يقال : أخنى عليه الدهر أي أهلكه قال أبو عبيد : وروي أنخع أي أقتل والنخع القتل الشديد . انتهى .

(الخامسة) قوله رجل كان تسمى كذا ضبطناه بالتاء المثناة من فوق المفتوحة أي هو الذي سمى نفسه بذلك وهو أبلغ في الذم من أن يسميه غيره بذلك ويرضى هو بتلك التسمية ، وإن كان مذموما أيضا برضاه بذلك أما لو كانت من غيره ولا يرضى بها فلا إثم عليه بذلك ، وقوله : (ملك) بكسر اللام والأملاك جمعه قال في الصحاح : هو مليك وملك وملك مثل فخذ وفخذ كأن الملك مخفف من ملك والملك مقصور من مالك أو مليك والجمع الملوك والأملاك والاسم الملك والموضع مملكة . انتهى .

(السادسة) قوله لا ملك إلا الله كذا في روايتنا ورواية مسلم من الطريق الأولى وفي الرواية من الطريق الثانية لا مالك إلا الله والملك من له الملك بضم الميم والمالك من له الملك بكسرها والملك أمدح والمالك أخص وكلاهما واجب لله تعالى وفي التنزيل مالك يوم الدين وقرأ عاصم والكسائي مالك [ ص: 151 ] بالألف .

(السابعة) قول سفيان بن عيينة مثل شاهان نشاه هو بالفارسية بمعنى ملك الأملاك وما كان أغناه عن تفسير العربية بالعجمية ، وكأنه إنما فعل ذلك لاشتهار هذا اللفظ بين ملوك العجم وقد حكي عن عضد الدولة بن بويه أنه سمى نفسه ملك الأملاك وقال في شعر له

ملـــــــك الأملاك غلاب القـــــــدر

فكان عند موته ينادي ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه ، والواقع في نسخ البخاري ومسلم ما ذكرته من شاهان شاه قال القاضي عياض ووقع في رواية شاه شاه قال : وزعم بعضهم أن الأصوب شاه شاهان وكذا جاء في بعض الأخبار في كسرى قالوا : شاه ملك وشاهان الملوك وكذا يقولون لقاضي القضاة موزموندان قال القاضي : ولا ينكر صحة ما جاءت به الرواية ؛ لأن كلام العجم مبني على التقديم والتأخير في المضاف والمضاف إليه فيقولون في غلام زيد " زيد غلام " فهذا أكثر كلامهم فرواية مسلم صحيحة . انتهى .

(الثامنة) فيه تحريم التسمي بهذا الاسم سواء كان بالعربية أو بالعجمية لترتيب هذا الوعيد الشديد عليه ودلالته على أن غضب الله تعالى على المسمى به أشد من غضبه على غيره .

(التاسعة) ويلحق به التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به كالرحمن والقدوس والمهيمن وخالق الخلق ونحوها .

(العاشرة) استنبط منه بعضهم تحريم أن يقال للإنسان أقضى القضاة ؛ لأنه في معناه وسمعت والدي رحمه الله يحكي عن شيخنا قاضي القضاة عز الدين بن جماعة رحمه الله أنه رأى والده في النوم فقال له ما كان أضر علي من هذا الاسم يعني قاضي القضاة فلذلك منع الموقعين أن يكتبوا له في التسجيلات الحكمية قاضي القضاة وأمرهم أن لا يكتبوا إلا قاضي المسلمين واستمر هذا إلى اليوم وهو حسن وفي البلاد الغربية يكتب لأكبر القضاة قاضي الجماعة ولا بأس بذلك ويقال في اليمن قاضي الأقضية ولا قبح فيه أيضا ، وقال الزمخشري المفسر في قوله تعالى وأنت أحكم الحاكمين أي أعلم الحكام وأعدلهم إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعدل والعلم ورب عريق في الجهل من متقلدي زماننا قد لقب أقضى [ ص: 152 ] القضاة ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر ، وقال ابن المنير في نقده على الزمخشري رأى أن أقضى القضاة أرفع من قاضي القضاة ، والذي يلاحظونه الآن في عكسه أن القضاة يشاركون أقضاهم في الوصف ، وإن ترفع عليهم فترفعوا أن يشاركهم أحد فأفردوا رئيسهم بنعته بقاضي القضاة الذي هو يقضي بين القضاة ولا يشاركه أحد في وصفه وجعلوا أقضى القضاة يليه في المرتبة ، وقد أطلق عليه الصلاة والسلام أقضى القضاة قال صلى الله عليه وسلم أقضاكم علي فلا حرج أن يطلق على أعدل قضاة الزمان أو الإقليم أو أعلمهم أقضى القضاة وقاضي القضاة أي في زمنه وبلده ، قال الشاعر

وكــــل قـــرن نـــاجم فـــي زمـــن فهـــو شــبيه فــي زمــن فيــه بــدا



وقال العلم العراقي الصواب ما ذكره الزمخشري من منع الاتصاف بأقضى القضاة ؛ لأنه في معنى أحكم الحاكمين ، وقول ابن المنير : إن عليا رضي الله عنه قيل في حقه : أقضى القضاة ليس بمجيد فإن التفضيل في حق علي وقع على قوم مخاطبين بالكاف والميم في قوله عليه الصلاة والسلام أقضاكم علي والشهادة له بذلك ممن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .

وأما إطلاق التفضيل على كل من يحكم بالألف واللام وقد قال تعالى إن ربك يقضي بينهم بحكمه وقال وقضينا إليه وقال وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه إلى غير ذلك مما لا يحصى فيجب اجتنابه والأدب مع الله تعالى فيما وصف به نفسه من الصفات أن لا يدعى أحد إلى فضيلة والتقدم فيها لما فيها من الجرأة وسوء الأدب ، ولا عبرة بقول من ولي القضاء مرة ونعت بذلك ولد في سمعه فتحيل لنفسه في إجازة إطلاق ذلك فإن الحق أحق أن يتبع ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية