صفحة جزء
(الطب والرقى) عن بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : عليكم بهذه الحبة السوداء وهي الشونيز فإن فيها شفاء رواه أحمد واتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة وزاد من كل داء إلا السام .


(الطب والرقى) (الحديث الأول) عن بريدة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليكم بهذه الحبة السوداء وهي الشونيز فإن فيها شفاء . رواه أحمد (فيه) فوائد :

(الأولى) لم يخرج أحد من أصحاب الكتب الستة حديث بريدة فلذلك اقتصر رحمه الله على عزوه لرواية الإمام أحمد رحمه الله وقد اتفق الشيخان وابن ماجه على إخراج هذا المتن من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة بلفظ إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام ، والسام الموت والحبة السوداء الشونيز لفظ مسلم وفي رواية البخاري بيان أن قوله والسام الموت إلى آخره من كلام الزهري ، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق سعيد بن المسيب وحده ومسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي سلمة وحده ومسلم أيضا من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ورواه مسلم وابن ماجه من طريق عبد الله بن أبي عتيق عن عائشة .

(الثانية) فيه أن الحبة السوداء هي الشونيز قال القاضي عياض هو الأشهر وقال النووي هو الصواب المشهور الذي ذكره الجمهور . قال القاضي عياض : وذكر الحربي عن [ ص: 183 ] الحسن أنها الخردل وحكى الهروي عن غيره أنها الحبة الخضراء قال والعرب تسمي الأخضر أسود والأسود أخضر ، والحبة الخضراء ثمرة البطم أي بضم الباء الموحدة وإسكان الطاء المهملة قال : وهو شجر الضرو (قلت) هو بكسر الضاد المعجمة وإسكان الراء المهملة وآخره واو ، وقال في الصحاح : هو صمغ شجرة تدعى الكمكام تجلب من اليمن وقال أبو العباس القرطبي أولى ما قيل فيها إنها الشونيز لوجهين :

(أحدهما) أنه المذكور في الحديث .

(وثانيهما) أنه أكثر منافع من الخردل ، وحب الضرو متعين أن يكون هو المراد بالحديث إذ مقصوده الإخبار بأكثرية فوائده ومنافعه .

(الثالثة) (الشونيز) بضم الشين المعجمة وإسكان الواو وكسر النون وإسكان الياء المثناة من تحت وآخره زاي معجمة كذا ضبطناه ورويناه وقال أبو العباس القرطبي : قيده بعض مشايخنا بفتح الشين ، وقال غيره بالضم وحكى القاضي عياض عن ابن الأعرابي أنه قال هو الشينيز أي بياء بعد الشين بدل الواو ، وقال كذا تقوله العرب . قال القاضي ورأيت غيره قاله الشونيز (قلت) هي كلمة أعجمية وشأن العرب عند النطق بمثلها التلاعب بها وإيرادها كيف اتفق .

(الرابعة) فيه الحض على استعمال الحبة السوداء ، وأن فيها شفاء قال القاضي عياض ذكر الأطباء في منفعة الحبة السوداء التي هي الشونيز أشياء كثيرة وخواص عجيبة يصدقها قوله عليه الصلاة والسلام فيها فذكر جالينوس أنها تحل النفخ وتقتل ديدان البطن إذا أكلت أو وضعت على البطن وتنفي الزكام إذا قليت وصرت في خرقة وشمت وتزيل العلة التي ينقشر منها الجلد ، وتقلع الثآليل المتعلقة والمنكسة والحبلان وتدر الطمس المنحبس إذا كان انحباسه من أخلاط غليظة لزجة وتنفع الصداع إذا طلي بها الجبين وتقلع البثور والجرب ، وتحلل الأورام البلغمية إذا تضمد بها مع الخل ، وتنفع من الماء العارض في العين إذا استعط بها مسحوقه بدهن إلا برشاء ، وتنفع من إيضاب النفس ، ويتمضمض بها من وجع الأسنان ، وتدر البول واللبن وتنفع من نهشة الروتيلا وإذا بخر بها طردت الهوام .

قال القاضي وقال غير جالينوس خاصيتها إذهاب حمى البلغم والسوداء ، وتقتل حب القرع وإذا علقت في عنق المزكوم نفعته وتنفع من حمى الربع [ ص: 184 ]

(الخامسة) أطلق في حديث بريدة أن فيها شفاء وقال في حديث أبي هريرة من كل داء إلا السام ، واختلف العلماء في ذلك فقال أكثرهم هذا من العام المخصوص قال الخطابي هذا من عموم اللفظ الذي يراد به الخصوص إذ ليس يجتمع في طبع شيء من النبات والشجر جميع القوى التي تقابل الطبائع كلها في معالجة الأدواء على اختلافها وتباين طبائعها ، وإنما أراد به شفاء من كل داء يحدث من الرطوبة أو البلغم ، وذلك أنه حار يابس فهو شفاء بإذن الله تعالى للداء المقابل له في الرطوبة والبرودة ، وذلك أن الدواء أبدا بالمضاد والغذاء بالمشاكل .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي : العسل عند الأطباء إلى أن يكون دواء لكل داء أقرب من الحبة السوداء ولا يخفى أن من الأمراض ما إذا شرب صاحبه العسل خلق الله الألم بعده ، وأن قوله في العسل فيه شفاء للناس إنما هو في الأغلب .

وقال القاضي عياض والنووي هو محمول على العلل الباردة على نحو ما سبق في القسط وهو صلى الله عليه وسلم قد يصف بحسب ما شاهده من غالب حال الصحابة في الزمن الذي يخالطهم فيه ، ثم نقلا عن بعضهم أنه لا يبعد منفعة الحار من أدواء حارة لخواص فيها فقد نجد ذلك في أدوية كثيرة فيكون الشونيز منها لعموم الحديث ، ويكون استعماله أحيانا منفردا وأحيانا مركبا قال أبو العباس القرطبي وعلى هذا القول الآخر تحمل كلية الحديث على عمومها ، وإحاطتها ولا يستثنى من الأدواء شيء إلا الداء الذي يكون عند الموت في علم الله تعالى وعلى القول الأول يكون ذلك العموم محمولا على الأكثر والأغلب والله أعلم .

(السادسة) فيه استحباب التداوي وهو مذهب أصحابنا وجمهور السلف وعامة الخلف وفيه رد على من أنكر التداوي من غلاة الصوفية ، وقال كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي وحجة العلماء هذا الحديث وما في معناه وفي صحيح مسلم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء أبرأه بإذن الله عز وجل .

وروى الترمذي وغيره عن أسامة بن شريك قال قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى ؟ قال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا وهو الهرم قالوا ويجب أن يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل ، وأن التداوي أيضا من قدر الله تعالى ، وهذا كالأمر بالدعاء [ ص: 185 ] وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصين ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتقدم ولا تتأخر عن أوقاتها ، ولا بد من وقوع المقدرات والله أعلم .

(السابعة) ( قوله) إلا السام يقتضي أن السام وهو الموت داء ، والمعروف أنه ليس داء ، وإنما هو عدم وفناء فيحتمل أوجها : (أحدها) أنه سماه داء على طريق المبالغة فإنه أشد من المرض ؛ لأن المرض داء يضعف والموت يعدم . (ثانيها) أنه استثناء منقطع أي لكن السام لا دواء له كما قال وداء الموت ليس له دواء ، وإطلاق الاستثناء على المنقطع مجاز لعدم دخوله فيما قبله ، والله أعلم .

(ثالثها) أنه المراد بالمرض الذي عند الموت وفراغ الأجل فلا ينفع فيه الدواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية