صفحة جزء
وعن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه في المرض الذي توفي فيه بالمعوذات .


(الحديث الرابع) وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه في [ ص: 193 ] المرض الذي توفي فيه بالمعوذات (فيه) فوائد :

(الأولى) اتفق عليه الشيخان من هذا الوجه من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة وزاد في رواية البخاري فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها ، فسألت ابن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه وأخرجه الأئمة الستة خلا الترمذي من طريق مالك والشيخان من طريق يونس بن يزيد ومسلم وحده من طريق زياد بن سعد كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة .

(الثانية) فيه استحباب أن يرقي المريض نفسه بالمعوذات لبركتها وحصول الشفاء بها (فإن قلت) : كيف الجمع بين هذا وبين قوله عليه الصلاة والسلام في الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يرقون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون فإن ظاهره منافاة ذلك للتوكل والأكمل ، والنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق حالا وأعظمهم توكلا ، ولم يزل حاله في ازدياد إلى أن قبض وقد رقى نفسه في مرض موته ؟ (قلت) : الجواب عن ذلك من وجهين :

(أحدهما) أن الرقى التي ورد المدح في تركها هي التي من كلام الكفار والرقى المجهولة والتي بغير العربية ، وما لا يعرف معناه فهذه مذمومة لاحتمال أن يكون معناها كفرا أو قريبا منه أو مكروها .

وأما الرقى التي بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهي فيها بل هي سنة .

(ثانيهما) أن المدح في ترك الرقى للأفضلية وبيان التوكل وما فعله عليه الصلاة والسلام من الرقى أو أذن فيه فإنما هو لبيان الجواز مع أن تركها أفضل في حقنا ، وبهذا قال ابن عبد البر ، وحكاه عن طائفة قال النووي ، والمختار الأول قال وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تعالى قال المازري جميع الرقى جائزة إذا كانت بكتاب الله تعالى أو بذكره ومنهي عنها إذا كانت باللغة العجمية أو بما لا يدرى معناه لجواز أن يكون فيه كفر وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن [ ص: 194 ] فيها شرك .

وأما قوله في الرواية الأخرى يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى فأجاب العلماء عنه بأجوبة :

(أحدهما) كان نهى أولا ثم نسخ ذلك وأذن فيها وفعلها واستقر الشرع على الإذن و (الثاني) أن النهي عن الرقى المجهولة كما سبق (والثالث) أن النهي لقوم كانوا يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة .

(الثالثة) (المعوذات) بكسر الواو وقال أبو العباس القرطبي ويعني بها قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس ونحو قوله تعالى وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون (قلت) الظاهر أن المراد المعوذتان مع قل هو الله أحد وأطلقها عليها اسمهما على طريق التغليب بدليل أن لفظ رواية البخاري من طريق يونس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا ، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به قال يونس كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا آوى إلى فراشه ، والحديث واحد وطرقه يفسر بعضها بعضا ويحتمل أن يراد بالمعوذات سورتا الفلق والناس خاصة ، وعبر بلفظ الجمع لاشتمالهما على تعاويذ متعددة .

وقال القاضي عياض تخصيصه بالمعوذات لشمولها الاستعاذة من أكثر المكروهات من شر السواحر النفاثات ومن شر الحاسدين ووسوسة الشياطين وشر شرار الناس وشر كل ما خلق وشر كل ما جمعه الليل من المكاره والطوارق انتهى .

(الرابعة) قوله (ينفث) بكسر الفاء وبالثاء المثلثة ، والنفث نفخ لطيف بلا ريق على المشهور ففيه استحباب النفث في الرقية قال النووي وقد أجمعوا على جوازه واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، قال القاضي عياض وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقى وأجازوا فيه النفخ بلا ريق ، قال : وهذا المذهب والفرق إنما يجيء على قول ضعيف إن النفث معه ريق قال وقد اختلف في النفث والتفل فقيل هما بمعنى واحد ، ولا يكونان إلا بريق .

وقال أبو عبيد يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث وقيل عكسه قال [ ص: 195 ] وسئلت عائشة رضي الله عنها عن نفث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب قال بعض شيوخنا : وهذا يقتضي أنه يكفي اليسير من الريق وليس كما قال ؛ لأن نافث الزبيب لا بزاق معه ولا اعتبار بما يخرج عليه من بله ولا يقصد ذلك وقد جاء في حديث الذي رقى بفاتحة الكتاب فجعل يجمع بزاقه ويتفل والله أعلم .

(الخامسة) قال القاضي عياض فائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء أو النفس المباشر للرقية والذكر الحسن والدعاء والكلام الطيب كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء الحسنى في النشر ، وقد يكون على وجه التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض وانفصاله عنه كانفصال ذلك النفث عنه في الراقي وقد كان مالك ينفث إذا رقى نفسه وكان يكره الرقية بالحديدة والملح ، والذي يعقد والذي يكتب خاتم سليمان وكان العقد عنده أشد كراهة لما في ذلك من مشابهة السحرة كأنه تأول قوله تعالى النفاثات في العقد .

(السادسة) إن قلت كيف يجمع بين قوله في هذه الرواية على نفسه وفي الرواية المتقدمة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به (قلت) كان فعله ذلك بنفسه في ابتداء المرض وفعلها ذلك بعد اشتداد المرض كما بين ذلك في رواية البخاري المذكورة في الوجه الأول وبوب عليه البخاري باب في المرأة ترقي الرجل .

(السابعة) وقولها في المرض الذي توفي فيه لم ترد به تقييد ذلك بحالة المرض ، وأنه لم يكن يفعله في الصحة ، وإنما أرادت أنه كان يفعل ذلك في آخر حياته وفي أكمل أحواله وأفضلها ، وأنه لم ينسخ ذلك شيء والله أعلم .

وقال القاضي عياض ذكر في أحاديث مسلم كلها أن الرقية إنما جاءت بعد الشكوى وذكر البخاري فحكى الحديث المتقدم ثم حكى عن بعضهم القول به وقال النووي قال كثيرون أو الأكثرون بجواز الاسترقاء للصحيح لما يخاف أن يغشاه من المكروهات والهوام ودليله أحاديث منها حديث عائشة هذا في صحيح البخاري .

التالي السابق


الخدمات العلمية