صفحة جزء
وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طهر إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات رواه مسلم وفي رواية له (طهور) وزاد أولاهن بالتراب قال البيهقي في المعرفة ومحمد بن سيرين ينفرد بذكر التراب فيه من حديث أبي هريرة وقال في السنن بعد أن رواه من رواية أبي رافع عن أبي هريرة حديث غريب ، إن كان حفظه معاذ فهو حسن ؛ لأن التراب في هذا الحديث لم يروه ثقة غير ابن سيرين (قلت) : تابعه عليه أخوه يحيى بن سيرين فيما رواه البزار وقال : أولهن أو آخرهن بالتراب وللبيهقي (أولاهن أو أخراهن) ولأبي داود (السابعة بالتراب) وللبزار (إحداهن بالتراب) وللدارقطني من حديث علي إحداهن بالبطحاء ولمسلم من حديث عبد الله بن مغفل وعفروه الثامنة بالتراب .


(الحديث الثاني) وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم [ ص: 127 ] طهر إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات رواه مسلم وفي رواية له (طهور) وزاد أولاهن بالتراب فيه فوائد :

(الأولى) انفرد مسلم بإخراجه هكذا من رواية همام وأخرجه هو وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي من رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ طهور وزاد في آخره أولاهن بالتراب وقال الترمذي في روايته أولهن أو قال آخرهن بالتراب وقال هذا حديث حسن صحيح .

(الثانية) في قوله طهر وطهور ما يدل على نجاسة سؤر الكلب ونجاسته في نفسه ؛ لأن الطهارة إنما تكون عن حدث أو نجس ولا حدث على الإناء فتعين أن يكون ذلك للنجاسة ، وهو قول أكثر العلماء كما تقدم في الحديث الذي قبله .

(الثالثة) اعترض بعض المالكية على هذا الحصر بأن الطهارة قد تكون لا عن حدث ولا عن خبث بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : وجعلت لي الأرض طهورا قال والتيمم لا يرفع الحدث وليس على المتيمم نجاسة والطهور يطلق على إباحة الاستعمال كالتيمم ، وهذا الذي اعترض به مردود ؛ لأن التيمم ، وإن كان لا يرفع الحدث ، فإن موجبه الحدث فلا يقال إنها طهارة لا عن حدث والله أعلم .

(الرابعة) اعترض ابن دقيق العيد على المحتجين بالحديث على نجاسة الكلب ببحث آخر ذكره ، وهو أن يقال : إن الحديث إنما دل على نجاسة الإناء بسبب الولوغ ، وذلك قدر مشترك بين نجاسة عين اللعاب وعين الفم أو تنجسهما باستعمال النجاسة غالبا ، والدال على المشترك لا يدل على أحد الخاصين فلا يدل الحديث على نجاسة عين الفم أو عين اللعاب فلا تستمر الدلالة على نجاسة عين الكلب كله ، ثم قال : وقد يعترض على هذا بأن يقال لو كانت العلة تنجس اللعاب أو الفم كما أشرتم إليه لزم أحد أمرين ، وهو إما وقوع التخصيص في العموم أو ثبوت الحكم بدون علته ؛ لأنا إذا فرضنا تطهير فم الكلب من النجاسة بماء كثير أو بأي وجه كان فولغ في الإناء فإما أن يثبت وجوب غسله أو لا ، فإن لم يثبت وجب تخصيص [ ص: 128 ] العموم ، وإن ثبت لزم ثبوت الحكم بدون علته وكلاهما على خلاف الأصل ، ثم قال : والذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال أن يقال : الحكم منوط بالغالب ، وما ذكرتموه من الصورة نادر لا يلتفت إليه ، ثم قال : وهذا البحث إذا انتهى إلى ههنا يقوي قول من يقول : إن الغسل لأجل قذارة الكلب انتهى .

(قلت) : ليس الغسل من القذارة طهارة شرعية ، وإنما هي لغوية وقوله طهور إناء أحدكم محمول على الحقيقة الشرعية ، وإذا حملناه على الحقيقة الشرعية فإثبات نجاسة فم الكلب باحتمال تنجيسه يعارض خلاف الأصل ، ولو ثبت ذلك في الكلب ثبت في غيره من الحيوانات القذرة التي تأكل الجيف كالسباع ، والطيور ولثبت ذلك أيضا في الهر فكثيرا ما يأكل النجاسات كالفأرة ، والحشرات ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الهرة : إنها ليست بنجس وتوضأ بسؤرها فدل على أن نجاسة الكلب أصلية لا عارضة باحتمال نجاسة أخرى والله أعلم .

(الخامسة) ولغ يلغ بفتح اللام فيهما وحكي في المضارع كسر اللام أيضا ، والمصدر ولوغ بضم الواو وولغ بفتحها وسكون اللام ، والولوغ هو الشرب بطرف اللسان قال أبو موسى المديني : وأكثر ما يكون الولوغ في السباع وقال القاضي أبو بكر بن العربي الولوغ للسباع والكلاب كالشرب لبني آدم قال ، وقد يستعمل الشرب للسباع ولا يستعمل الولوغ في الآدمي ويقال ليس شيء من الطيور يلغ غير الذباب .

(قلت) وقد استعمل الولوغ في الآدمي مجازا فقالوا فيمن قتل رجلا وشرب دمه ولغ في دمه تشبيها له بالسباع ، وأما الولوغ بفتح الواو فهو من كثر منه ، الولوغ قاله أبو عبيد ويطلق أيضا على الإناء الذي ولغ فيه كالسعوط والله أعلم .

(السادسة) استدل برواية مسلم أولاهن بالتراب على اشتراط التتريب في نجاسة الكلب ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومحمد بن جرير الطبري وأكثر الظاهرية وذهب أبو حنيفة ومالك والأوزاعي إلى أنه لا يجب التتريب ، وإنما الواجب الماء فقط وأوجب بعضهم التتريب فيما لا يفسد به كالإناء دون ما يفسد به كالثياب ونحوها .

(السابعة) اختلفت الروايات في المرة التي تجعل فيها التراب فعند مسلم كما تقدم أولاهن أو قال أخراهن بالتراب وفي رواية لأبي بكر البزار في مسنده إحداهن بالحاء ، والدال المهملتين [ ص: 129 ] ومن ذكر من المصنفين أنها لم ترد من حديث أبي هريرة فمردود عليه بذكر البزار لها في مسنده . وقد رواها الدارقطني هكذا أيضا من حديث علي فقال فيه إحداهن بالبطحاء وذكر النووي في الفتاوى أنها رواية ثابتة ولمسلم من حديث عبد الله بن مغفل إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب . وقد اختلف كلام الشارحين في الجمع بينها فجمع النووي بينها بأن التقييد بالأولى وبغيرها ليس على الاشتراط بل المراد إحداهن قال .

وأما رواية وعفروه الثامنة بالتراب فمذهبنا ومذهب الجماهير أن المراد اغسلوه سبعا واحدة منهن بتراب مع الماء فكأن التراب قائم مقام غسلة فسميت ثامنة لهذا وأشار ابن دقيق العيد إلى تضعيف هذا الجواب بأنه تأويل فيه استكراه .

وهكذا يدل كلام البيهقي في السنن على تعذر الجمع بين رواية الثامنة بالتراب وبين ما تقدم ، فإنه صار إلى الترجيح دون الجمع فقال بعد ذكر حديث ابن مغفل في الثامنة ما صورته وأبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره فروايته أولى فرجح البيهقي روايته بكونه أحفظ وهو أحد وجوه الترجيح عند المعارضة .

وقد استشكل ابن دقيق العيد إجزاء الترتيب في أي غسلة شاء من الغسلات السبع بأن رواية إحداهن على تقدير ثبوتها مطلقة ، وقد قيدت في بعضها بأولاهن وفي بعضها بالسابعة فلا يجزئ التتريب في غيرهما لاتفاق القيدين على نفيه ، وما ذكره استشكالا وبحثا قد نص عليه الشافعي في مختصر البويطي . فقال : وإذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب ولا يطهره غير ذلك ، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا لفظه بحروفه ، وعبارته في الأم قريبة من ذلك ، وقد تبعه من أصحابه على تقييد ذلك بالأولى أو الأخرى الزبيري في الكافي والمرعشي في كتاب ترتيب الأقسام ونقله الدارمي أيضا في الاستذكار عن ابن جابر ، وقد ضعف بعض مصنفي الحنفية الرواية التي ذكر فيها التراب بهذا الاضطراب من كونها أولاهن أو أخراهن أو إحداهن أو السابعة أو الثامنة فقال : إن هذا الاضطراب يقتضي طرح ذكر التراب رأسا ، وكذا قال صاحب المفهم إن هذه الزيادة مضطربة وفيما قالاه نظر ، فإن [ ص: 130 ] الحديث المضطرب إنما تتساقط الروايات إذا تساوت وجوه الاضطراب أما إذا ترجح بعض الوجوه فالحكم للرواية الراجحة فلا يقدح فيها رواية من خالفها كما هو معروف في علوم الحديث . وإذا تقرر ذلك فلا شك أن رواية أولاهن أرجح من سائر الروايات ، فإنه رواها عن محمد بن سيرين ثلاثة ، هشام بن حسان وحبيب بن الشهيد وأيوب السختياني وأخرجها مسلم في صحيحه من رواية هشام فتترجح بأمرين : كثرة الرواة وتخريج أحد الشيخين لها وهما من وجوه الترجيح عند التعارض .

وأما رواية أخراهن بالخاء المعجمة ، والراء فلا توجد منفردة مسندة في شيء من كتب الحديث إلا أن ابن عبد البر ذكر في التمهيد أنه رواها خلاس عن أبي هريرة كما سيأتي في الوجه الذي يليه إلا أنها رويت مضمومة مع أولاهن كما سيأتي . وأما رواية السابعة بالتراب فهي ، وإن كانت بمعناها ، فإنه تفرد بها عن محمد بن سيرين قتادة وانفرد بها أبو داود ، وقد اختلف فيها على قتادة فقال إبان عنه هكذا ، وهي رواية أبي داود وقال سعيد بن بشير عنه الأولى بالتراب فوافق الجماعة رواه كذلك الدارقطني في سننه ، والبيهقي من طريقه ، وهذا يقتضي ترجيح رواية أولاهن لموافقته للجماعة . وأما رواية إحداهن بالحاء المهملة ، والدال فليست في شيء من الكتب الستة ، وإنما رواها البزار كما تقدم .

وأما رواية أولاهن أو أخراهن فقد رواها الشافعي ، والبيهقي من طريقه بإسناد صحيح ، وفيه بحث أذكره ، وهو أن قوله أولاهن أو أخراهن لا تخلو إما أن تكون مجموعة من كلام الشارع أو هو شك من بعض رواة الحديث ، فإن كانت مجموعة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو دال على التخيير بينهما ويترجح حينئذ ما نص عليه الشافعي رحمه الله من التقييد بهما ، وذلك ؛ لأن من جمع بينهما معه زيادة علم على من اقتصر على الأولى أو السابعة ؛ لأن كلا منهن حفظ مرة فاقتصر عليها وحفظ هذا الجمع بين الأولى ، والأخرى فكان أولى . وإن كان ذلك شكا من بعض الرواة فالتعارض قائم ويرجع إلى الترجيح فترجح الأولى كما تقدم ومما يدل على أن ذلك شك من بعض الرواة لا من كلام الشارع قول الترمذي في روايته أولاهن أو قال أخراهن بالتراب فهذا يدل على أن بعض الرواة شك فيه فيترجح حينئذ تعيين الأولى ولها شاهد أيضا من رواية خلاس عن أبي رافع [ ص: 131 ] عن أبي هريرة كما سيأتي في الوجه الذي يليه . وإذا كان ذكر الأولى أرجح ففيه حجة لما ذكر أصحابنا من كون التتريب في المرة الأولى أولى وذكروا له معنى آخر ، وهو أنه إذا قدم التتريب في الأولى فتناثر من بعض الغسلات رشاش إلى غير الموضع المتلوث بالنجاسة الكلبية لم يجب تتريبه بخلاف ما إذا أخر فكان هذا أرفق لكن حمله على الأولوية متقاصر عما دلت عليه الرواية الصحيحة فينبغي حمله على تعيين المرة الأولى والله أعلم .

(الثامنة) ذكر البيهقي في المعرفة أن محمد بن سيرين ينفرد بذكر التراب فيه من حديث أبي هريرة وليس كما ذكره فقد رواه الدارقطني من رواية خالد بن يحيى الهلالي عن سعيد بن أبي عروة عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة ويونس عن الحسن عن أبي هريرة فقال فيه الأولى بالتراب وخالد بن يحيى قال فيه ابن عدي أرجو أنه لا بأس به لأني لم أر في حديثه شيئا منكرا وقال الذهبي صويلح لا بأس به وورد ذكر التراب في حديث أبي هريرة أيضا من غير رواية محمد ، والحسن رواه النسائي من رواية معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا ولغ الكلب [ ص: 132 ] في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب ورواه البيهقي في سننه الكبرى من طريق الدارقطني ، ثم قال هذا حديث غريب إن حفظه معاذ فهو حسن ؛ لأن التراب في هذا الحديث لم يروه ثقة غير ابن سيرين عن أبي هريرة قال : وإنما رواه غير هشام عن قتادة عن ابن سيرين كما تقدم انتهى وذكر ابن عبد البر في التمهيد أنه رواه خلاس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أخراهن بالتراب قال وبعضهم يقول في حديث خلاس إحداهن بالتراب هكذا ذكر ابن عبد البر أنه من رواية خلاس عن أبي هريرة ، وقد سمع خلاس من أبي هريرة وروايته عنه في صحيح البخاري إلا أن الظاهر أنه سقط منه ذكر أبي رافع كما دلت عليه رواية النسائي المتقدمة والله أعلم .

(التاسعة) في قوله : طهور إناء أحدكم مع ذكر التراب في آخره في رواية مسلم دليل على أنه لا يكفي التتريب بتراب نجس ؛ لأن النجس لا يكون مطهرا ، وهو أصح الوجهين كما قاله الرافعي كما لا يصح التيمم بتراب نجس ، والوجه الثاني أنه يصح كالدباغ بشيء نجس وبنى الرافعي على هذا الخلاف ما إذا تنجست الأرض الترابية بالكلب ، فإن قلنا لا يكفي التراب النجس فلا بد من تراب آخر ولكن الأظهر في هذه المسألة كما قال الرافعي : إنه لا يحتاج إلى تراب آخر إذ لا معنى لتتريب التراب .

(العاشرة) في قوله : فاغسلوه سبعا أولاهن بالتراب ما قد يدل على أنه لا يكتفي بذر التراب على المحل بل لا بد أن يجعله في الماء ويوصله إلى المحل ، وهو كذلك كما جزم به الرافعي وغيره قال ابن دقيق العيد : ووجه الاستدلال أنه جعل مرة التتريب داخلة في مسمى الغسلات ، وذر التراب على المحل لا يسمى غسلا وهذا ممكن ، وفيه احتمال ؛ لأنه إذا ذر التراب على المحل وأتبعه الماء يصح أن يقال غسل بالتراب .

وأيضا فقوله : وعفروه قد يشعر بالاكتفاء بالتتريب بطريق ذر التراب على المحل ، فإن كان خلطه بالماء لا ينافي كونه تعفيرا لغة فقد ثبت ما قالوه ؛ لأن لفظ التعفير حينئذ ينطلق على ذر التراب على المحل وعلى إيصاله بالماء إليه ، والحديث الذي دل على اعتبار مسمى الغسلة يدل على خلطه بالماء وإيصاله إلى المحل به ، وذلك أمر زائد على مقتضى مطلق التعفير على التقدير الذي ذكرناه من شمول اسم التعفير للصورتين معا أعني ذر التراب [ ص: 133 ] وإيصاله بالماء انتهى .

وما أبداه الشيخ من الاحتمال في إجزاء ذر التراب وإتباعه بالماء قد صرح بالاكتفاء به ابن الرفعة ورد عليه بأن الشيخ أبا محمد الجويني صرح في التبصرة أنه لا يكفي ، وهو مقتضى كلام غيره من الأصحاب .

(الحادية عشر) استدل به الرافعي على أنه لا يكفي مزج التراب بمائع غير الماء ؛ لأن المعنى فليغسله بالماء سبعا وإلا لجاز الغسل سبعا بغير الماء وهو واضح ، وهذا هو الأصح كما قاله الرافعي والوجه الثاني أنه يكفي ؛ لأن المقصود من الغسلة السابعة التراب ، وهو بعيد .

(الثانية عشر) فيه أنه لو غسله بالماء سبعا ، ثم مزج التراب بمائع فغسله به ثامنة أنه لا يكفي ؛ لأن التراب ليس في أولى الغسلات ولا في إحداهن ، والحديث يدل على اشتراط جمع التراب مع الماء ، وهذا هو الذي صححه النووي في شرح الوسيط المسمى بالتنقيح وكلامه في بقية كتبه محتمل تبعا للرافعي أما إذا غسله بالماء سبعا ومزج التراب بالمائع وغسله به مع الماء غسلة ثامنة ففي المهمات أنه يجوز قطعا كما نبه عليه ابن الصلاح في مشكل الوسيط قال : ولا يتجه فيه خلاف الأوجه بعيد في أن التراب تزول طهوريته بالخل ونحوه .

(الثالثة عشر) اختلف أصحاب الشافعي في الأمر بالتتريب في نجاسة الكلب هل هو تعبد أو معقول المعنى فمن قال : إنه تعبد جعله متعينا ، وأنه لا يقوم غيره مقامه ، وإن كان أبلغ في الإزالة كالصابون ، والأشنان ونحوهما ومن جعله معقول المعنى اختلفوا في العلة فقال بعضهم : العلة فيه الجمع بين نوعي الطهور تغليظا للنجاسة وجعلها بعضهم الاستظهار مع الماء بغيره فمن علل بالجمع بين نوعي الطهور لم يكتف بغير التراب ومن جعله للاستظهار اكتفى بأمر آخر مع الماء ولم يكتف بالغسلة الثامنة إذ لا زيادة على الماء والأصح كما صححه الرافعي والنووي تعين التراب ، وأنه لا يكفي الصابون والأشنان ونحوهما ، وفيه وجه أنه يكفي فيما يفسد بالتراب كالثياب خصوصا النفيسة ، وفيه قول آخر أنه يقوم غيره مقامه عند عدمه لا عند وجوده ، وهذا الأخير قد نص عليه الشافعي في الأم مع القول الأول من غير ترجيح لأحدهما ، وفيه قول آخر أنه يكفي مطلقا حكاه الرافعي ، وإنما فرضه في الأم عند عدم التراب كما تقدم .

(الرابعة عشر) فيه أنه لو غسله مرة ثامنة بالماء بدلا عن التراب لا يكفي ، وهو الأصح كما قاله الرافعي .

وأما من قال من أصحابنا يكفي ؛ لأن الماء [ ص: 134 ] أبلغ في التطهير من التراب فمردود ؛ لأنه لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال ، ولو كان الماء أبلغ من التراب مطلقا لجاز لمن وجد بعض ما يكفيه من الماء لأعضاء التيمم أن يقتصر على غسل الوجه ، واليدين دون التيمم ؛ لأن الماء أبلغ في التطهير ولا قائل بذلك والله أعلم .

(الخامسة عشر) ظاهر الحديث أنه لا يكتفى بالرمل عن التراب في نجاسة الكلب ؛ لأن له اسما يخصه دون التراب إلا أن أصحابنا صححوا جواز التيمم به إذا كان ناعما له غبار بل زاد النووي على هذا فقال في الفتاوى أنه لو سحق الرمل حتى صار له غبار جاز التيمم به ، ومقتضى هذا الاكتفاء به في التتريب من الكلب ، وذلك يتوقف على جواز كونه يسمى ترابا .

وفي الحديث ما قد يدل عليه فذكر أبو موسى المديني في ذيله على العرنيين للهروي أن في حديث الحمر الأهلية أمران تكفأ القدور ، وأن يرمل اللحم بالتراب وفسره بأنه يلت بالتراب فيحتمل أن يكون المراد أنه يترب بالتراب فأتى بقوله يرمل ؛ لأن الرمل من جنس التراب فجمع بين ذكر الرمل ، والتراب ويحتمل أن يكون المراد حتى يصير التراب له رمالا كما يرمل السرير فيلتصق عليه التراب فشبه ذلك من كثرته بالنسج على السرير ، والأول أظهر والله أعلم .

(السادسة عشر) فيه حجة على من ذهب إلى اشتراط الغسل من نجاسة الكلب ثمانيا وحكاه ابن عبد البر عن الحسن البصري أنه كان يفتي بأنه يغسل سبعا بالماء ومرة ثامنة بالتراب قال : ولا أعلم أحدا كان يفتي بذلك غيره .

(قلت) : قد ذهب إليه أحمد بن حنبل أيضا كما حكاه عنه صاحب المفهم من المالكية وحكاه عنه أيضا الرافعي وحجته في ذلك حديث عبد الله بن مغفل عند مسلم فاغسلوه سبعا وعفروه الثامنة بالتراب ، وقد تقدم قال ابن دقيق العيد : والحديث قوي فيه فمن لم يقل به احتاج إلى تأويله بوجه فيه استكراه .

وقال الطحطاوي : ينبغي لهذا المخالف لنا أن يقول : لا يطهر الإناء حتى يغسل ثماني مرات الثامنة بالتراب ليأخذ بالحديثين جميعا ، وقد تقدم الجواب عن هذا في الفائدة السابعة وفي العاشرة أيضا من هذا الحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية