صفحة جزء
وعن سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت النار إلى ربها عز وجل فقالت أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما يكون من الحر من فيح جهنم .


(الحديث الثاني) وعن سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 161 ] اشتكت النار إلى ربها عز وجل فقالت أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما يكون من الحر من فيح جهنم فيه فوائد :

(الأولى) استدل به على أن قوله في الحديث المتقدم ، فإن شدة الحر من فيح جهنم على حقيقته ، وهو قول الجمهور كما تقدم لكونه صرح فيه بشكوى النار إلى ربها من أكل بعضها بعضا وإذنه لها بنفسين ، وأن شدة الحر من ذلك النفس ، وهذا لا يمكن معه الحمل على المجاز ، ولو حملنا شكوى النار على المجاز ؛ لأن الإذن لها في التنفس ونشأة شدة الحر عنه لا يمكن فيه التجوز والله أعلم .

(الثانية) إن قلت : قوله في هذا الحديث أشد ما يكون من الحر من فيح جهنم أخص من قوله في الحديث المتقدم : فإن شدة الحر من فيح جهنم ؛ لأن شدة الحر بعضها أشد من بعض فمقتضى هذا الحديث أنه لا يكون من فيح جهنم إلا ما هو أشد .

(قلت) لا يراد بأشد ما يكون من الحر التحقيق ، فإنه لا يصدق ذلك إلا على شيء يسير لا يوجد إلا في بعض أيام السنة وفي بعض البلاد فلا يؤمر حينئذ بالإبراد بصلاة الظهر إلا في تلك الحالة ولا قائل به ، وإنما يراد بذلك التقريب فما قارب ما هو أشد جعل من الأشد أو يراد الأشد الذي يكون غالبا دون الأشد الذي لا يوجد إلا نادرا فيستوي حينئذ في هذا الموضع شدة الحر وأشد الحر وحكى ابن عبد البر في الاستذكار عن الحسن البصري أنه قال : فما كان من برد يهلك شيئا فهو من زمهريرها ، وما كان من سموم يهلك شيئا فهو من حرها قال ابن عبد البر ، والشدة أي المذكورة في الحديث معنى قول الحسن انتهى فبين هذا الكلام أن ضابط شدة البرد ، والحر ما يهلك شيئا والله أعلم .

" الثالثة " كون شدة الحر من فيح جهنم هل اقتضى [ ص: 162 ] تأخير الصلاة لما في إيقاعها في تلك الحالة من المشقة أو أن الحالة التي ينتشر فيها أثر العذاب لا ينبغي التعبد بالصلاة فيها ؟ ينبغي أن يكون الأول قول من يرى أن الإبراد رخصة فلو تكلف المشقة وصلى في أول الوقت لكان أفضل ، وأن يكون الثاني قول من يرى أنه الأفضل ، وقد يكون القائل بأنه الأفضل يعتبر المعنى الأول أيضا ويقول تلك المشقة تقتضي مرجوحية الصلاة في تلك الحالة لما يحصل من الاضطراب السالب للخشوع .

وقد استشكل كون الحالة التي ينتشر فيها أثر العذاب لا ينبغي الصلاة ويقال الصلاة سبب الرحمة فينبغي فعلها لطرد العذاب ولكن التعليل إذا جاء من الشارع يجب تلقيه بالقبول ، وإن لم يفهم معناه لكنا نرجح بهذا الإشكال المعنى الأول وهو أن ترك الصلاة في تلك الحالة إنما هو لما فيها من المشقة ويترجح مع ذلك تأخير الصلاة لسلب الخشوع .

(الرابعة) حكى ابن عبد البر وغيره خلافا في قوله : اشتكت النار إلى ربها فقال جماعة هو على الحقيقة ، وأنها تنطق ينطقها الذي ينطق الجلود وينطق كل شيء ولها لسان كما شاء الله واستشهدوا لقوله تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وبقوله سمعوا لها تغيظا وزفيرا وهذا في القرآن والسنة كثير وقال آخرون هو على المجاز كقوله : شكا إلي جملي طول السرى في أمثلة لذلك كثيرة قال ابن عبد البر : ولكلا القولين وجه ورجح جماعة الأول فقال القاضي عياض : إنه الأظهر وقال القرطبي : إنه الأولى وقال النووي إنه الصواب ؛ لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته فوجب الحكم بأنه على ظاهره .

(الخامسة) وفيه أن النار مخلوقة موجودة الآن ، وهو أمر قطعي للتواتر المعنوي وبه قال أهل السنة خلافا لمن قال من المعتزلة : إنها إنما تخلق يوم القيامة

(السادسة) النفس بفتح الفاء أصله للإنسان وذوات الروح ، وهو خارج من الجوف وداخل إليه من الهواء فشبه الخارج من حرارة جهنم وبردها إلى الدنيا بالنفس الذي يخرج من جوف الإنسان وقال القرطبي في شرح مسلم : النفس التنفس ، وفيه نظر ؛ لأن النفس اسم ، والتنفس مصدر (السابعة) زاد في رواية البخاري ومسلم [ ص: 163 ] وأشد ما يجدون من الزمهرير وفي رواية لمسلم فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم .

(فإن قلت) : فلم لا أخرت الصلاة في وقت شدة البرد كما أخرت في وقت شدة الحر .

(قلت) : شدة البرد تكون غالبا وقت الصبح ولا تزول إلا بطلوع الشمس وارتفاع النهار فلو أخرت الصلاة لشدة البرد لخرجت عن وقتها ولا سبيل إلى ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية