صفحة جزء
وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحتثي في ثوبه فناداه ربه - عز وجل - يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك رواه البخاري .


الحديث الثالث [ ص: 233 ] فيه فوائد :

(الأولى) أيوب النبي صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه يقال هو ابن أمعوص بن رزاح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم وأن أمه من ولد لوط بن هارون وهو الذي امتحن بالبلاء فظهر صبره ثم عوفي قال الله تعالى إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب وقال الله تعالى ووهبنا له أهله ومثلهم معهم وروى أبو بكر بن مردويه في تفسيره من رواية الضحاك عن ابن عباس قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة أيوب وقوله ووهبنا له أهله ومثلهم معهم يعني زوجته قال ابن عباس رد الله إليه امرأته وزاد في شبابها حتى ولدت له ستة وعشرين ذكرا إلا أن السقف خر على ثلاثة وعشرين ذكرا فماتوا فلم يبعثهم الله ولكن يقول وآتيناه أهله ومثلهم معهم يعني زوجته ومثلهم معهم يعني ولدت له ستة وعشرين ذكرا فأهبط الله إليه ملكا فقال يا أيوب إن الله تعالى يقرئك السلام بصبرك على البلاء فاخرج إلى أندرك فبعث الله - سبحانه وتعالى - حمرا فهبطت عليه بجراد الذهب والملك قائم معه كانت الجرادة تخرج خارج الحجارة فيتبعها حتى يردها في أندره فقال الملك يا أيوب أما تشبع من الداخل حتى تتبع الخارج قال إن هذه بركة من بركات ربي وليس أشبع منها وفي بعض كتب التفاسير عن الحسن البصري أنه قال ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب قال فجعل يضمه بيده فأوحى الله تعالى إليه يا أيوب ألم أغنك قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها. وروى أبو بكر البزار في مسنده وأبو إسحاق الثعلبي في تفسيره من طريق عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن نبي الله أيوب صلى الله عليه وسلم لبث في بلائه ثمانية عشر سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه فذكر الحديث وفيه قال وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تبارك وتعالى سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض وهذه إن صحت [ ص: 234 ] قضية غير قضية الاغتسال . واختلف في عدة أولاده فتقدم في حديث ابن عباس أنه كان له ثلاثة وعشرون ذكرا وأن الله تعالى عوضه منهم ستة وعشرين ذكرا وقال وهب بن منبه كان له سبع بنات وثلاث بنين وقال ابن كيسان كان له سبع بنين وسبع بنات واختلف أيضا هل ردهم الله تعالى إليه بعد العافية بأعيانهم أو عوضه منهم ولم يحيهم فحكي الأول عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة وكعب الأحبار وهو ظاهر الآية وذهب إلى الثاني جماعة منهم عكرمة وهو صريح حديث ابن عباس المتقدم .

(الثانية) فيه جواز الاغتسال عريانا في الخلوة مع إمكان التستر وهو مذهب الجمهور كما تقدم في حديث ابن عباس الذي قبله .

(الثالثة) قوله (خر) بالخاء المعجمة أي سقط وظاهر هذا سقوطه عليه من علو فهو بظاهره مخالف لما تقدم على الحسن البصري أن نفس الماء تطاير عليه جرادا لأنه ليس حينئذ ساقطا عليه من علو وعلى كل تقدير فهو إكرام عظيم من الله تعالى له فهو معجزة في حقه لكن هل كان جرادا حقيقة ذا روح إلا أن جسمه ذهب أو كان على شكل الجراد وليس فيه روح الأظهر الثاني قال الجوهري وليس الجراد بذكر الجرادة وإنما هو اسم جنس كالبقرة والبقر والتمر والتمرة والحمام والحمامة وما أشبه ذلك فحق مذكره أن لا يكون مؤنثه من لفظه لئلا يلتبس الواحد المذكر بالجمع .

(الرابعة) فيه أنه لا يحكم على الإنسان بالشره وحب الدنيا بمجرد أخذه لها وإقباله عليها بل ذلك يختلف باختلاف المقاصد وإنما الأعمال بالنيات فمحال أن يكون أيوب عليه الصلاة والسلام أخذ هذا المال حبا للدنيا وإنما أخذه كما أخبر هو عن نفسه لأنه بركة من ربه وفي معنى البركة هنا أوجه :

(أحدها) أنه وجد عند زيادة إقبال النعمة عليه وإن كانت النعمة عليه مستمرة فصار هذا الذهب محبوبا لأنه وجد عند إقبال المحبوب ألا ترى الشعراء يكثرون التشبيب بالديار وإنما يحملهم على ذلك أنهم وجدوا فيها من إقبال المحبوب عليهم ما أوجب حب تلك الديار

أمـــر علـــى الديـــار ديـــار ليلـــى أقبـــــل ذا الجــــدار وذا الجــــدارا     ومـــا حـــب الديــار شــغفن قلبــي
ولكـــن حـــب مــن ســكن الديــارا

[ ص: 235 ]

(ثانيها) أنه قريب العهد بتكوين الله تعالى وهذا كما حسر النبي صلى الله عليه وسلم عن جلده حتى ينزل عليه المطر وقال إنه حديث عهد بربه أي بتكوين ربه .

(ثالثها) أن هذه نعمة جديدة خارقة للعادة فينبغي تلقيها بالقبول ففي ذلك شكر لها وتعظيم لشأنها وفي الإعراض عنها كفر بها وقريب من هذا ما في حديث إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه رابعها أن هذه آية ومعجزة فكل ما نشأ عنها فهو بركة ومن ذلك قول بعض الصحابة رضي الله عنهم كنا نعد الآيات بركة ومن هذا قضية الصديق مع أضيافه لما صاروا لا يأكلون لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها فحمل بقيته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه وقال هذا بركة فبادر إلى تحصيله والاحتواء عليه لبركته لا لنفس المال فإنه لا يحب ولا يقصد لذاته والله أعلم .

وقال ابن بطال فيه جواز الحرص على المال الحلال وفضل الغنى لأنه سماه بركة انتهى .

وبتقدير أن يكون أحبه لمجرد كونه مالا حلالا فإنما ذلك لما ينشأ عنه من صرفه في الطاعات والاستعانة به على القربات والتقرب به إلى الله تعالى في كل الحالات .

(الخامسة) قوله ألم أكن أغنيتك كما ترى يحتمل أن يراد غنى القلب ويحتمل أن يراد غنى المال أيضا وعلى الاحتمال الثاني ففيه أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان غنيا شاكرا وقوله تعالى إنا وجدناه صابرا لا ينافي ذلك لأن المراد صبره على البلاء ويحتمل أن يراد صبره مع البلاء على فقر المال أيضا والذي يظهر أن الله تعالى جمع لأيوب عليه الصلاة والسلام مقامي الصبر على الفقر والشكر على الغنى باعتبار حالتين فكان في نفس البلاء فقيرا صابرا وقبله وبعده غنيا شاكرا ولهذا قال الله تعالى في حقه إنا وجدناه صابرا فأثنى عليه بالصبر ثم قال نعم العبد إنه أواب فأشار بذلك إلى أنه غني شاكر كما قال في حق سليمان عليه الصلاة والسلام نعم العبد إنه أواب مع أنه كان غنيا شاكرا .

وقال بعض العلماء إنما قال الله تعالى إنا وجدناه صابرا ولم يقل صبورا لأنه لم يكن جميع أحواله الصبر بل كان في بعض الأحوال مستلذا للبلاء مستعذبا له فكان بعض أحواله الصبر وبعضها الاستلذاذ .

(السادسة) قوله فناداه ربه يحتمل أن يكون على لسان ملك ويحتمل أن [ ص: 236 ] يكون بإلقائه في قلبه ويحتمل أن يكون كفاحا كما وقع للسيد موسى عليه الصلاة والسلام وفيه بعد ويدل للأول حديث ابن عباس المتقدم في الفائدة الأولى والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية