صفحة جزء
وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه قلم يدر ما يقول فليضطجع رواه مسلم ، وللبخاري من حديث أنس إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ ولهما من حديث عائشة إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه


[ ص: 89 ] الحديث الثالث) وعن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع رواه مسلم (فيه) فوائد :

(الأولى) رواه مسلم عن محمد بن رافع وأبي داود عن أحمد بن حنبل كلاهما عن عبد الرزاق ورواه النسائي في فضائل القرآن من سننه من طريق عبد الله بن المبارك عن معمر ويشهد له ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه وما في صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نعس في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ .

(الثانية) قوله إذا قام أحدكم من الليل يحتمل وجهين :

(أحدهما) أن القيام هنا على بابه والمراد القيام للصلاة ثم يحتمل على هذا أن يكون القيام على ظاهره وإن لم يشرع في الصلاة ويحتمل أن يراد به القيام للصلاة مع الدخول فيها ويدل لذلك قوله في حديث عائشة وأنس إذا نعس أحدكم في الصلاة .

(ثانيهما) أن يراد بالقيام من الليل نفس صلاة الليل فإنه يقال لصلاة الليل قيام الليل .

(الثالثة) قوله فاستعجم القرآن على لسانه بفتح التاء من قوله فاستعجم ورفع النون من قوله القرآن على أنه فاعل أي استغلق ولم ينطق به لسانه لغلبة النعاس كأنه صارت به عجمة لاختلاط حروف الناعس وعدم بيانها قال في الصحاح : استعجم عليه الكلام استبهم وقال في المحكم استعجم الرجل سكت واستعجمت عليه [ ص: 90 ] قراءته انقطعت فلم يقدر على القراءة من نعاس وقال في المشارق استعجم عليه القرآن لم يفصح به لسانه ثم قال استعجم القرآن على لسانه أي ثقلت عليه القراءة كالأعجمي وقال في النهاية : استعجم القرآن على لسانه أي ارتج عليه فلم يقدر أن يقرأ كأنه صار به عجمة .

(الرابعة) قوله فلم يدر ما يقول ، يحتمل معناه أوجها :

(أحدها) أنه لنعاسه صار لا يفهم ما ينطق به .

(والثاني) أنه لا يدري لشدة نعاسه ما بعد اللفظ الذي نطق به حتى يأتي به .

(والثالث) أنه لشدة نعاسه لا يقدر على النطق أصلا وهذه مراتب أخفها الأول وأشدها الأخير .

(الخامسة) الأمر بالاضطجاع في هذه الصورة هل هو على سبيل الاستحباب أو الإيجاب ؟ قال والدي رحمه الله ظواهر الأحاديث تقتضي وجوب ذلك فأما من حيث المعنى فإن كان النعاس خفيفا بحيث يعلم المصلي الناعس أنه أتى بواجبات الصلاة فإن صلاته صحيحة فلا يجب عليه الخروج منها وإن كان بحيث لا يعلم ما أتى به من الواجبات فصلاته غير صحيحة فيجب الخروج منها ثم إن ذهب عنه النوم بأمر آخر غير الاضطجاع من تبرد بماء أو غير ذلك فلا شك أنه لا يجب ذلك لأنه وسيلة إلى ذهاب النوم وقد ذهب فإذا حصل المقصد سقطت الوسائل وإن لم يذهب ذلك إلا بالاضطجاع وجب عليه لأنه مقدمة للواجب وقال القاضي عياض إن من اعتراه ذلك في الفريضة وكان في وقت سعة لزمه أن يفعل مثل ذلك وينام حتى يتفرغ للصلاة انتهى فحمل الأمر في ذلك على الوجوب انتهى كلام والدي رحمه الله والظاهر حمل الأمر في ذلك على الاستحباب مطلقا وما دام النعاس خفيفا فلا وجه للوجوب وإذا اشتد النعاس انقطعت الصلاة لشدته فلا يحتاج إلى إيجاب القطع لأنه يحصل بغير اختيار المصلي والله أعلم .

(السادسة) ظاهر لفظ الحديث اختصاص ذلك بصلاة الليل لكن المعنى يقتضي أن سائر الصلوات في ذلك سواء وأنه لا فرق بين الفرض والنفل والتقييد بالقيام من الليل إنما هو لأن الغالب عليه النعاس في صلاة الليل دون صلاة النهار وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له وقد يقال إن المعنى يقتضي اختصاص ذلك بصلاة النفل لجواز الخروج من صلاة النفل دون الفرض حكى القاضي عياض عن مالك وجماعة من العلماء أنهم حملوا الحديث على صلاة [ ص: 91 ] الليل لأن الغالب غلبة النوم إنما هي في الليل وحكى النووي عن مذهبنا ومذهب الجمهور أنه عام في صلاة الفرض والنفل في الليل والنهار .

(السابعة) محل هذا الأمر ما إذا لم يكن في فريضة قد ضاق وقتها فإن ضاق الوقت بأن لم يبق منه زمن يسع صلاة الفرض فليس له الخروج منها كذا حمله على ذلك القاضي عياض وقال إنه يصلي على ما أمكنه ويجاهد نفسه ويدافع النوم جهده ثم إن تحقق أنه أداها وعقلها أجزأته وإلا أعادها ، قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي وما ذكره هو الذي يمشي على قواعد مذهبنا كما في مسألة ما إذا قدم الطعام وقد بقي من الوقت ما يسع قدر الصلاة وفيه وجه حكاه المتولي أنه يأكل وإن خرج الوقت وهو قول أهل الظاهر وقد يفرق بين البابين بأن الصلاة بحضرة الطعام لا تؤدي إلى حالة الناعس الذي لا يدري ما يقول وأن من أداه النعاس إلى هذه الحالة لا يستمر في صلاة الفرض ولا يسرع فيها حتى يكون على حالة يدري أنه أتى بواجبات الصلاة وقد روى ابن عبد البر في التمهيد بإسناده إلى الضحاك في قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى قال سكر النوم قال ابن عبد البر ولا أعلم أحدا قال ذلك غير الضحاك قال والدي رحمه الله إلا أن الآية دلت على أن من لا يعلم ما يقول لا يدخل في الصلاة فمن أداه غلبة النوم إلى ذلك فهو منهي عن الدخول فيها ومن إتمامها بعد الشروع حتى يعلم ما يقول انتهى .

(الثامنة) على تقرير أن يحمل القيام من الليل على نفس الصلاة فإذا أمر بإبطال الصلاة بعد الشروع فيها عند طروء النعاس فعدم الدخول أولى بذلك لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء .

(التاسعة) علل الأمر في الرقاد في حديث عائشة بأنه لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه وقال في حديث آخر حتى يعلم ما يقرأ والقدر المشترك بين العلتين خشية التخليط فيما يأتي به من القراءة والدعاء والأمر في القراءة أشد لوجوبها ولعظم المفسدة في تغيير القرآن فإن قلت كيف يؤاخذ العبد بما لا يقصد النطق به من تغيير نظم القرآن أو دعائه على نفسه وهو ناعس ؟ قلت قال والدي رحمه الله الجواب عنه من وجهين :

(أحدهما) أن من عرض نفسه للوقوع في ذلك بعد النهي عنه فهو متعد بالصلاة في هذه الحالة فجنايته على نفسه وهذا إذا كان عالما [ ص: 92 ] بالنهي .

(والوجه الثاني) إنا وإن قلنا إنه غير آثم لعدم قصده وذلك فالمقصود من الصلاة أداؤها على ما أمر به وتحصيل الدعاء لنفسه لكونه أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد فإذا فات المقصود بكونه لم يعلم ما أتى به من الواجبات ولم يحصل له إجابة ما قصد أن يدعو به لنفسه فهو منهي عن تكليف نفسه ما لا فائدة فيه والله أعلم .

(العاشرة) قد يدعى أن في حديث أبي هريرة زيادة على حديثي عائشة وأنس لأن عدم درايته لما يقول قد يكون لنعاس وقد يكون لشغل فكر أو لغير ذلك من الأسباب لكن الأغلب كونه النعاس .

(الحادية عشرة) على تقدير أن يحمل القيام من الليل على القيام للصلاة وإن لم يشرع في الصلاة ففي منع الناعس من قراءة القرآن ولو كان في غير صلاة والمعنى فيه ما يحذر من تغييره لكلام الله تعالى وإن كان في الصلاة قدر زائد وهو أنه إذا لم يعلم ما قرأ من الواجب لم يؤد فرضه .

(الثانية عشرة) أمره بالاضطجاع لأنه الهيئة المحمودة في النوم والمعهودة غالبا فلو استلقى أو نام قاعدا حصل الغرض بذلك .

(الثالثة عشرة) استدل به على أن النعاس لا ينقض الوضوء فإنه لم يعلل قطع صلاة الناعس ببطلان طهارته وإنما علله بتوقع الغلط منه والنعاس دون النوم وحقيقة النوم استرخاء البدن وزوال الاستشعار وخفاء الكلام وليس ذلك في النعاس وأما قول صاحب المحكم إن النعاس النوم فهو مخالف لكلام أكثر أهل اللغة وقد صرح الشاعر بأنه دونه في قوله

وســـنان أثقلـــه النعــاس فــرنقت فــــي عينـــه ســـنة وليس بنـــائم

وقد قال صاحب المحكم بعد ذلك وقيل مقاربته وهذا هو الموافق لكلام غيره والله أعلم .

(الرابعة عشرة) استدل به صاحب المفهم على أن النوم ليس بحدث من حيث إنه لم يجعل ذلك علة نقض طهارته قال والدي رحمه الله وفيه نظر من حيث إنه لا تعرض في الحديث للنوم وقد يؤدي النعاس إلى النوم وقد لا يؤدي إليه بأن يستمر المصلي على صفة الناعس حتى يفرغ .

(الخامسة عشرة) فيه إشارة إلى الحض على الإقبال على الصلاة بخشوع وفراغ قلب ونشاط وتعقل لما يقرأه ويدعو به .

(السادسة عشرة) الظاهر أن المراد بسب نفسه في حديث عائشة هو الدعاء عليها لأنه [ ص: 93 ] إذا ذهب يستغفر ويدعو لنفسه وهو لا يعقل ربما قلب الدعاء فدعا على نفسه أما الشتم فلا محل له هنا وفي صحيح مسلم من حديث أم سلمة لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون قاله في قصة وفاة أبي سلمة حين ضج ناس من أهله .

وفي مسلم أيضا من حديث جابر لا تدعوا على أنفسكم ولا على أولادكم ولا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم وفي سنن أبي داود بزيادة قوله ولا على خدمكم وقال في آخره فيوافق ذلك من الله إجابة وهذان الحديثان فيمن دعا على نفسه بقصد ذلك وحديث الباب فيمن جرى على لسانه لغلبة النعاس ونحوه عليه من غير قصد لذلك .

(السابعة عشرة) استدل به بعضهم على أنه ليس للإنسان أن يسب نفسه وفيه نظر لما تقدم من أن معنى سب نفسه هنا الدعاء عليها ثم إنه ليس في الحديث ما يقتضي منع ذلك والله أعلم .

(الثامنة عشرة) يجوز في قوله فيسب الرفع عطفا على يذهب والنصب جوابا للترجي كما في قوله تعالى لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع على قراءة حفص بالنصب .

التالي السابق


الخدمات العلمية