صفحة جزء

228 . والواضعون للحديث أضرب أضرهم قوم لزهد نسبوا      229 . قد وضعوها حسبة ، فقبلت
منهم ، ركونا لهم ونقلت      230 . فقيض الله لها نقادها
فبينوا بنقدهم فسادها      231 . نحو أبي عصمة إذ رأى الورى
زعما نأوا عن القرآن ، فافترى      232 . لهم حديثا في فضائل السور
عن ابن عباس ، فبئسما ابتكر      233 . كذا الحديث عن أبي اعترف
راويه بالوضع ، وبئسما اقترف      234 . وكل من أودعه كتابه
- كالواحدي - مخطئ صوابه


الواضعون للحديث على أصناف بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع .

فضرب من الزنادقة يفعلون ذلك; ليضلوا به الناس ، كعبد الكريم بن أبي [ ص: 308 ] العوجاء الذي أمر بضرب عنقه محمد بن سليمان بن علي ، وكبيان الذي قتله خالد القسري ، وحرقه بالنار . وقد روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال : وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث .

وضرب يفعلونه انتصارا لمذاهبهم ، كالخطابية والرافضة ، وقوم من السالمية .

وضرب يتقربون لبعض الخلفاء والأمراء بوضع ما يوافق فعلهم وآراءهم ، كغياث بن إبراهيم ، حيث وضع للمهدي في حديث : " لا سبق إلا في نصل ، أو [ ص: 309 ] خف ، أو حافر " . فزاد فيه : أو جناح . وكان المهدي إذ ذاك يلعب بالحمام فتركها بعد ذلك وأمر بذبحها ، وقال أنا حملته على ذلك .

وضرب كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون به في قصصهم ، كأبي سعد المدائني .

وضرب امتحنوا بأولاد لهم أو وراقين فوضعوا لهم أحاديث ودسوها عليهم ، فحدثوا بها من غير أن يشعروا ، كعبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي .

وضرب يلجؤون إلى إقامة دليل على ما أفتوا به بآرائهم ، فيضعون ، كما نقل عن أبي الخطاب بن دحية ، إن ثبت عنه .

وضرب يقلبون سند الحديث; ليستغرب ، فيرغب في سماعه منهم ، وسيأتي ذلك بعد هذا في المقلوب .

وضرب يتدينون بذلك لترغيب الناس في أفعال الخير بزعمهم ، وهم منسوبون إلى الزهد ، وهم أعظم الأصناف ضررا; لأنهم يحتسبون بذلك ، ويرونه قربة ، فلا يمكن [ ص: 310 ] تركهم لذلك . والناس يثقون بهم ، ويركنون إليهم لما نسبوا له من الزهد ، والصلاح ، فينقلونها عنهم . ولهذا قال يحيى بن سعيد القطان : ما رأيت الصالحين أكذب منهم في الحديث . يريد بذلك - والله أعلم - المنسوبين للصلاح بغير علم يفرقون به بين ما يجوز لهم ويمتنع عليهم . يدل على ذلك ما رواه ابن عدي والعقيلي بسندهما الصحيح إليه أنه قال : ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير . أو أراد أن الصالحين عندهم حسن ظن ، وسلامة صدر ، فيحملون ما سمعوه على الصدق ، ولا يهتدون لتمييز الخطأ من الصواب .

ولكن الواضعون ممن ينسب للصلاح ، وإن خفي حالهم على كثير من الناس ، فإنه لم يخف على جهابذة الحديث ، ونقاده . فقاموا بأعباء ما حملوا فتحملوه ، فكشفوا عوارها ، ومحوا عارها . حتى لقد روينا عن سفيان قال : ما ستر الله أحدا بكذب في الحديث . وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال : لو أن [ ص: 311 ] رجلا هم أن يكذب في الحديث ، لأسقطه الله تعالى . وروينا عن ابن المبارك قال : لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث ، لأصبح والناس يقولون فلان كذاب . وروينا عنه أنه قيل له : هذه الأحاديث المصنوعة ، فقال : تعيش لها الجهابذة إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . وروينا عن القاسم بن محمد أنه قال : إن الله أعاننا على الكذابين بالنسيان .

ومثال من كان يضع الحديث حسبة ، ما رويناه عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي - قاضي مرو - ، فيما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة : من أين لك عن عكرمة ، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة ، وليس عند أصحاب عكرمة هذا ؟ ! فقال : إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن ، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ، ومغازي محمد بن إسحاق ، فوضعت هذا الحديث حسبة . وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع . فقال أبو حاتم ابن حبان : جمع كل شيء إلا الصدق . وقال أبو عبد الله الحاكم : وضع [ ص: 312 ] حديث فضائل القرآن . وروى ابن حبان في مقدمة تاريخ الضعفاء ، عن ابن مهدي قال : قلت لميسرة بن عبد ربه : من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا ؟ قال : وضعتها أرغب الناس فيها . وهكذا حديث أبي الطويل في فضائل قراءة سور القرآن سورة سورة . فروينا عن المؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثني شيخ به . فقلت للشيخ من حدثك ؟ فقال : حدثني رجل بالمدائن - وهو حي - فصرت إليه ، فقلت : من حدثك ؟ فقال : حدثني شيخ بواسط - وهو حي - فصرت إليه ، فقال : حدثني شيخ بالبصرة ، فصرت إليه ، فقال : حدثني شيخ بعبادان ، فصرت إليه ، فأخذ بيدي ، فأدخلني بيتا ، فإذا فيه قوم من المتصوفة ، ومعهم شيخ ، فقال هذا الشيخ حدثني ، فقلت : يا شيخ من حدثك ؟ فقال : لم يحدثني أحد . ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن ، فوضعنا لهم هذا الحديث; ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن .

وكل من أودع حديث أبي - المذكور - تفسيره ، كالواحدي ، والثعلبي والزمخشري مخطئ في ذلك; لكن من أبرز إسناده منهم ، كالثعلبي ، والواحدي فهو [ ص: 313 ] أبسط لعذره ، إذ أحال ناظره على الكشف عن سنده ، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه من غير بيانه ، كما تقدم . وأما من لم يبرز سنده ، وأورده بصيغة الجزم فخطؤه أفحش ، كالزمخشري .

التالي السابق


الخدمات العلمية