صفحة جزء

268 . وصححوا قبول تعديل بلا ذكر لأسباب له ، أن تثقلا      269 . ولم يروا قبول جرح أبهما;
للخلف في أسبابه ، وربما      270 . استفسر الجرح فلم يقدح ، كما
فسره ( شعبة ) بالركض ، فما      271 . هذا الذي عليه حفاظ الأثر
كـ (شيخي الصحيح) مع أهل النظر


اختلف في التعديل والجرح ، هل يقبلان ، أو أحدهما من غير ذكر أسبابهما ، أم لا يقبلان إلا مفسرين ؟ على أربعة أقوال : [ ص: 336 ] الأول : وهو الصحيح المشهور : التفرقة بين التعديل والجرح ، فيقبل التعديل من غير ذكر سببه; لأن أسبابه كثيرة ، فتثقل ويشق ذكرها; لأن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول ليس يفعل كذا ولا كذا ، ويعد ما يجب عليه تركه . ويفعل كذا وكذا ، فيعد ما يجب عليه فعله . فيشق ذلك ، ويطول تفصيله . وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا مبين السبب; لأن الجرح يحصل بأمر واحد ، فلا يشق ذكره; ولأن الناس مختلفون في أسباب الجرح . فيطلق أحدهم الجرح بناء على ما اعتقده جرحا ، وليس بجرح في نفس الأمر ، فلا بد من بيان سببه ، ليظهر أهو قادح أم لا ؟

ويدل على أن الجرح لا يقبل غير مفسر ، أنه ربما استفسر الجارح ، فذكر ما ليس بجرح .

فقد روى الخطيب بإسناده إلى محمد بن جعفر المدائني ، قال : قيل لشعبة : لم تركت حديث فلان ؟ قال : رأيته يركض على برذون ، فتركت حديثه .

وقولي في آخر البيت : ( فما ) ، أي : فماذا يلزم من ركضه على برذون . وروى ابن أبي حاتم ، عن يحيى بن سعيد ، قال : أتى شعبة المنهال بن عمرو ، فسمع صوتا [ ص: 337 ] فتركه . قال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : يعني أنه سمع قراءة بألحان فكره السماع منه من أجل ذلك . هكذا قال أبو حاتم في تفسير الصوت . وقد روى الخطيب بإسناده إلى وهب بن جرير ، قال : قال شعبة : أتيت منزل المنهال بن عمرو فسمعت منه صوت الطنبور ، فرجعت . فقيل له : فهلا سألت عنه أن لا يعلم هو . وروينا عن شعبة قال : قلت للحكم بن عتيبة : لم لم ترو عن زاذان ؟ قال : كان كثير الكلام . وقال محمد بن حميد الرازي : حدثنا جرير قال : رأيت سماك بن حرب يبول قائما ، فلم أكتب عنه . وقد عقد الخطيب لهذا بابا في “ الكفاية “ .

والقول الثاني : عكس القول الأول ، أنه يجب بيان سبب العدالة ، ولا يجب بيان سبب الجرح; لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها ، فيبني المعدلون على الظاهر . حكاه صاحب المحصول ، وغيره . ونقله إمام الحرمين في البرهان ، والغزالي في [ ص: 338 ] " المنخول " تبعا له; عن القاضي أبي بكر . والظاهر أنه وهم منهما ، والمعروف عنه أنه لا يجب ذكر أسبابهما معا ، كما سيأتي .

والقول الثالث : أنه لا بد من ذكر أسباب العدالة والجرح معا . حكاه الخطيب ، والأصوليون ، قالوا : وكما قد يجرح الجارح بما لا يقدح ، كذلك قد يوثق المعدل بما لا يقتضي العدالة . كما روى يعقوب الفسوي في تاريخه ، قال : سمعت إنسانا يقول لأحمد بن يونس : عبد الله العمري ضعيف . قال : إنما يضعفه رافضي مبغض لآبائه ، لو رأيت لحيته ، وخضابه ، وهيئته; لعرفت أنه ثقة . فاستدل أحمد بن يونس على ثقته بما ليس بحجة ، لأن حسن الهيئة يشترك فيه العدل والمجروح .

والقول الرابع : عكسه : أنه لا يجب ذكر سبب واحد منهما ، إذا كان الجارح والمعدل عالما بصيرا . وهو اختيار القاضي أبي بكر ، ونقله عن الجمهور فقال : قال الجمهور من أهل العلم : إذا جرح من لا يعرف الجرح ، يجب الكشف عن ذلك . ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن . قال : والذي يقوي عندنا ترك الكشف عن ذلك ، إذا كان الجارح عالما ، كما لا يجب استفسار المعدل عما به صار عنده المزكى عدلا ، إلى آخر كلامه . وممن حكاه عن القاضي أبي بكر ، الغزالي في المستصفى خلاف ما حكاه عنه في ( المنخول ) . وما ذكره عنه في " المستصفى " هو الذي حكاه صاحب المحصول ، والآمدي ، وهو المعروف عن القاضي ، كما رواه [ ص: 339 ] عنه الخطيب في “ الكفاية “ .

والقول الأول هو الذي نص عليه الشافعي . وقال الخطيب : هو الصواب عندنا . وقال ابن الصلاح : إنه الصحيح المشهور . وحكى الخطيب أنه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده ، مثل البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، إلى أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا . قال ابن الصلاح : وهو ظاهر مقرر في الفقه وأصوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية