صفحة جزء
[ ص: 42 ]

715 . واعمل بما تسمع في الفضائل والشيخ بجله ولا تثاقل      716 . عليه تطويلا بحيث يضجر
ولا تكن يمنعك التكبر      717 . أو الحيا عن طلب واجتنب
كتم السماع فهو لؤم واكتب      718 . ما تستفيد عاليا ونازلا
لا كثرة الشيوخ صيتا عاطلا      719 . ومن يقل إذا كتبت قمش
ثم إذا رويته ففتش      720 . فليس من ذا والكتاب تمم
سماعه لا تنتخبه تندم      721 . وإن يضق حال عن استيعابه
لعارف أجاد في انتخابه      722 . أو قصر استعان ذا حفظ فقد
كان من الحفاظ من له يعد      723 . وعلموا في الأصل إما خطا
أو همزتين أو بصاد أو طا


وليستعمل الطالب ما سمع من الحديث في فضائل الأعمال ، فقد روينا في حديث علي : أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما ينفي عني حجة الجهل ؟ قال : العلم . قال : فما ينفي عني حجة العلم ؟ قال : العمل .

وروينا عن بشر بن الحارث ، قال : يا أصحاب الحديث! أدوا زكاة هذا الحديث ، اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث [ ص: 43 ] .

وروينا عن عمرو بن قيس الملائي ، قال : إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ، - ولو مرة - تكن من أهله . وروينا عن وكيع ، قال : إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به وروينا عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، قال كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به وروينا عن أحمد بن حنبل ، قال ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به ، حتى مر بي في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا ، فأعطيت الحجام دينارا حين احتجمت وليبجل الطالب الشيخ ، فقد روينا عن مغيرة ، قال كنا نهاب إبراهيم ، كما نهاب الأمير وروينا عن البخاري قال ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من يحيى بن معين . وليحذر من التثقيل عليه لئلا يضجره ويمله . قال الخطيب : وإذا حدثه فيجب أن يأخذ منه العفو ولا يضجره . قال : والإضجار يغير الأفهام ، ويفسد الأخلاق ، ويحيل الطباع ، وقد كان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خلقا ، فلم يزالوا به حتى ساء خلقه . وروينا عن محمد بن سيرين : أنه سأله رجل عن حديث وقد أراد أن يقوم ، فقال : إنك إن كلفتني ما لم أطق ، [ ص: 44 ] ساءك ما سرك مني من خلق . قال ابن الصلاح : "يخشى على فاعل ذلك أن يحرم الانتفاع" .

قلت : وقد جربت ذلك ، فإن شيخنا أبا العباس أحمد بن عبد الرحمن المرداوي ، كان كبر وعجز عن الإسماع حتى كنا نتألفه على قراءة الشيء اليسير ، فقرأ عليه بعض أصحابنا فيما بلغني "العمدة " بإجازته من ابن عبد الدائم وأطال عليه فأضجره فكان يقول له الشيخ : لا أحياك الله أن ترويها عني ، أو نحو ذلك ، فمات الطالب بعد قليل ، ولم ينتفع بما سمعه عليه .

وليحذر الطالب أن يمنعه التكبر ، أو الحياء عن طلب العلم ، فقد ذكر البخاري عن مجاهد قال : "لا ينال العلم مستحي ، ولا مستكبر" ، وليتجنب الطالب أن يظفر بشيخ ، أو بسماع لشيخ فيكتمه لينفرد به عن أضرابه ، فذلك لؤم من فاعله ، على أنه قد روينا فعل ذلك عن جماعة من الأئمة المتقدمين ، كشعبة وسفيان الثوري ، وهشيم ، والليث ، وابن جريج ، وسفيان بن عيينة ، وابن لهيعة ، وعبد الرزاق ، فالله أعلم بمقاصدهم في ذلك . وروينا عن مالك قال : من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضا [ ص: 45 ] ، ونحوه عن ابن المبارك ويحيى بن معين . وروينا عن يحيى بن معين ، قال : من بخل بالحديث ، وكتم على الناس سماعهم ، لم يفلح . وروينا عن إسحاق بن راهويه ، قال : قد رأينا أقواما منعوا هذا السماع ، فوالله ما أفلحوا ولا أنجحوا . قال الخطيب : "والذي نستحبه إفادة الحديث لمن لم يسمعه والدلالة على الشيوخ والتنبيه على رواياتهم ، فإن أقل ما في ذلك النصح للطالب ، والحفظ للمطلوب ، مع ما يكتسب به من جزيل الأجر ، وجميل الذكر" ، ثم روى بإسناده إلى ابن عباس رفعه ، قال : إخواني تناصحوا في العلم ولا يكتم بعضكم بعضا ، فإن خيانة الرجل في علمه ، أشد من خيانته في ماله ، ثم روى عن الثوري قال : ليفد بعضكم بعضا ، وهذا يدل على أن ما روي عنه وعمن تقدم ذكره من الأئمة مما يخالف ذلك محمول على كتمه عمن لم يروه أهلا ، أو على من لم يقبل الصواب إذا أرشد إليه ، أو نحو ذلك .

وقد قال الخطيب : "من أداه - لجهله - فرط التيه والإعجاب إلى المحاماة عن الخطأ والمماراة في الصواب ، فهو بذلك الوصف مذموم مأثوم ، ومحتجز الفائدة عنه غير مؤنب ولا ملوم" [ ص: 46 ] .

وروينا عن الخليل بن أحمد أنه قال لأبي عبيدة معمر بن المثنى : لا تردن على معجب خطأ ، فيستفيد منك علما ، ويتخذك به عدوا .

ولتكن همة الطالب تحصيل الفائدة ، سواء وقعت له بعلو أم بنزول ولا يأنف أن يكتب عمن هو دونه ما يستفيده . روينا عن سفيان ووكيع قالا : لا يكون الرجل من أهل الحديث ، حتى يكتب . وقال وكيع : لا يكون عالما حتى يأخذ عمن هو فوقه ، وعمن هو دونه ، وعمن هو مثله . وكان ابن المبارك يكتب عمن هو دونه ، فقيل له ، فقال : لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع لي .

وليحذر الطالب أن تكون همته تكثير الشيوخ لمجرد اسم الكثرة وصيتها ، قال ابن الصلاح : وليس بموفق من ضيع شيئا من وقته في ذلك .

وروينا عن عفان أنه سمع قوما يقولون : نسخنا كتب فلان ، فقال : هذا الضرب من الناس ، لا يفلحون . كنا نأتي هذا فنسمع منه ما ليس عند هذا ، ونسمع من هذا ما ليس عند هذا ، فقدمنا الكوفة ، فأقمنا أربعة أشهر ، ولو أردنا أن نكتب مائة ألف حديث ، لكتبناها ، فما كتبنا إلا قدر خمسة آلاف حديث ، وما رضينا من أحد إلا بالإملاء ; إلا شريك فإنه أبى علينا . قال ابن الصلاح : "وليس من ذلك قول أبي [ ص: 47 ] حاتم الرازي : إذا كتبت فقمش ، وإذا حدثت ففتش" . والتقميش والقمش أيضا : جمع الشيء من ها هنا وها هنا . ولم يبين ابن الصلاح ما المراد بذلك ، وكأنه أراد : اكتب الفائدة ممن سمعتها ولا تؤخر ذلك حتى تنظر فيمن حدثك ، أهو أهل أن يؤخذ عنه أم لا ؟ فربما فات ذلك (1) بموت الشيخ أو سفره ، أو سفرك . فإذا كان وقت الرواية عنه ، أو وقت العمل بذلك ، ففتش حينئذ . وقد ترجم عليه الخطيب : باب من قال : يكتب عن كل أحد .

ويحتمل : أن مراد أبي حاتم استيعاب الكتاب المسموع ، وترك انتخابه ، أو استيعاب ما عند الشيخ وقت التحمل ، ويكون النظر فيه حالة الرواية . وقد يكون قصد المحدث تكثير طرق الحديث ، وجمع أطرافه ، فيكثر لذلك شيوخه ولا بأس بذلك . فقد روينا عن أبي حاتم قال : لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه . وقد وصف بالإكثار من الشيوخ سفيان الثوري ، وأبو داود الطيالسي ، ويونس بن محمد المؤدب ، ومحمد بن يونس الكديمي ، وأبو عبد الله ابن منده ، والقاسم بن داود البغدادي ، روينا عنه قال : كتبت عن ستة آلاف شيخ .

وينبغي للطالب أن يسمع ، ويكتب ما وقع له من كتاب ، أو جزء على التمام ، ولا ينتخبه ، فربما احتاج بعد ذلك إلى رواية شيء منه لم يكن فيما انتخبه منه ، فيندم ، [ ص: 48 ] وقد روينا عن ابن المبارك قال : ما انتخبت على عالم قط ، إلا ندمت . وروينا عنه قال : ما جاء من منتق خير قط . وروينا عن يحيى بن معين قال : صاحب الانتخاب يندم ، وصاحب النسخ لا يندم . وقد فرق الخطيب في ذلك بين أن يكون الشيخ عسرا ، والطالب واردا غريبا ; فقال : إذا كان المحدث مكثرا وفي الرواية معسرا ، فينبغي للطالب أن ينتقي حديثه ، وينتخبه ، فيكتب عنه ما لا يجده عند غيره ، ويتجنب المعاد من رواياته قال : وهكذا حكم الواردين من الغرباء الذين لا يمكنهم طول الإقامة والثواء . قال : وأما متى لم يتميز للطالب معاد حديثه من غيره ، وما يشارك في روايته مما ينفرد به ، فالأولى أن يكتب حديثه على الاستيعاب دون الانتقاء والانتخاب . انتهى . وإليه أشرت بقولي : (وإن يضق حال عن استيعابه) أي : لعسر الشيخ ، أو لكون الشيخ ، أو الطالب واردا غير مقيم ، ونحو ذلك .

وقولي : (لعارف) أي : بجودة الانتخاب فقد روينا عن يحيى بن معين قال : دفع إلي ابن وهب كتابين عن معاوية بن صالح خمسمائة أو ستمائة حديث ، فانتقيت شرارها لم يكن لي بها يومئذ معرفة [ ص: 49 ] .

وإن قصر الطالب عن معرفة الانتخاب وجودته ، فقال الخطيب : "ينبغي أن يستعين ببعض حفاظ وقته على انتقاء ما له غرض في سماعه وكتبه . ثم ذكر من المعروفين بحسن الانتقاء أبا زرعة الرازي ، وأبا عبد الرحمن النسائي ، وإبراهيم بن أورمة الأصبهاني ، وعبيدا العجل ، وأبا بكر الجعابي ، وعمر البصري ، ومحمد بن المظفر ، والدارقطني ، وأبا الفتح ابن أبي الفوارس ، وأبا القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي .

وقولي : (وعلموا في الأصل) . هذا بيان لما جرت به عادة الحفاظ من تعليمهم في أصل الشيخ على ما انتخبوه . وفائدته لأجل المعارضة أو ليمسك الشيخ أصله ، أو لاحتمال ذهاب الفرع ، فينقل من الأصل ، أو يحدث من الأصل بذلك المعلم عليه .

واختياراتهم لصورة العلامة مختلفة ، ولا حرج في ذلك ، فكان الدارقطني يعلم بخط عريض ، بالحمرة في الحاشية اليسرى ، وكان اللالكائي يعلم على أول إسناد الحديث بخط صغير ، بالحمرة . وهذا الذي استقر عليه عمل أكثر المتأخرين وكان أبو الفضل علي بن الحسن الفلكي يعلم بصورة همزتين بحبر في الحاشية اليمنى . وكان أبو الحسن علي بن أحمد النعيمي يعلم صادا ممدودة بحبر في الحاشية اليمنى ، أيضا . وكان أبو محمد الخلال يعلم طاء ممدودة كذلك . وكان محمد بن طلحة النعالي يعلم بحاءين إحداهما إلى جنب الأخرى كذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية