صفحة جزء
[ ص: 59 ] العالي والنازل


737 . وطلب العلو سنة وقد فضل بعض النزول وهو رد      738 . وقسموه خمسة فالأول
قرب من الرسول وهو الأفضل      739 . إن صح الاسناد وقسم القرب
إلى إمام وعلو نسبي      740 . بنسبة للكتب الستة إذ
ينزل متن من طريقها أخذ


روينا عن أحمد بن حنبل ، قال : طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف . وروينا عن محمد بن أسلم الطوسي ، قال : قرب الإسناد قرب ، أو قربة إلى الله عز وجل . وقال الحاكم : "وفي طلب الإسناد العالي سنة صحيحة ، فذكر حديث أنس في مجيء الأعرابي ، وقوله : يا محمد ، أتانا رسولك فزعم كذا ، . . . الحديث . قال : ولو كان طلب العلو في الإسناد غير مستحب لأنكر عليه سؤاله عما أخبره رسوله عنه ، ولأمره بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه" . ولم يحك الحاكم خلافا في تفضيل العلو ، [ ص: 60 ] وحكاه ابن خلاد ، ثم الخطيب ، فحكيا عن بعض أهل النظر : أن التنزل في الإسناد أفضل ; لأنه يجب على الراوي أن يجتهد في متن الحديث ، وتأويله ، وفي الناقل وتعديله ، وكلما زاد الاجتهاد زاد صاحبه ثوابا . قال ابن خلاد : "وهذا مذهب من يزعم أن الخبر أقوى من القياس" . قال ابن الصلاح : "وهذا مذهب ضعيف الحجة" . قال ابن دقيق العيد : لأن كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها ، قال : "ومراعاة المعنى المقصود من الرواية ، وهو الصحة أولى" . قلت : وهذا بمثابة من يقصد المسجد لصلاة الجماعة ، فيسلك طريقة بعيدة لتكثير الخطا ، وإن أداه سلوكها إلى فوات الجماعة التي هي المقصود . وذلك أن المقصود من الحديث التوصل إلى صحته وبعد الوهم . وكلما كثر رجال الإسناد تطرق إليه احتمال الخطأ والخلل ، وكلما قصر السند كان أسلم . اللهم إلا أن يكون رجال السند النازل ، أوثق ، أو أحفظ ، أو أفقه ، ونحو ذلك ، على ما سيأتي في آخر هذا الفصل .

ثم العلو في الإسناد على خمسة أقسام ، كما قسمه أبو الفضل محمد بن طاهر في جزء له ، أفرده لذلك ، وتبعه ابن الصلاح على كونها خمسة أقسام ، وإن اختلف كلامهما في ماهية بعض الأقسام ، كما سيأتي [ ص: 61 ] .

القسم الأول : القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من حيث العدد بإسناد نظيف غير ضعيف . وإليه الإشارة بقولي : (إن صح الاسناد) ، فأما إذا كان قرب الإسناد مع ضعف بعض الرواة ، فلا التفات إلى هذا العلو ، لا سيما إن كان فيه بعض الكذابين المتأخرين ممن ادعى سماعا من الصحابة ، كإبراهيم بن هدبة ، ودينار بن عبد الله ، وخراش ، ونعيم بن سالم ، ويعلى بن الأشدق وأبي الدنيا الأشج ، ونحوهم . قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في الميزان : "متى رأيت المحدث يفرح بعوالي أبي هدبة ، ويعلى بن الأشدق ، وموسى الطويل ، وأبي الدنيا ، وهذا الضرب ، فاعلم أنه عامي بعد" . وهذا القسم الأول هو أفضل أنواع العلو ، وأجلها ، وأعلى ما يقع للشيوخ في هذا الزمان من الأحاديث الصحاح المتصلة بالسماع ; ما هو تساعي الإسناد ، ولا يقع ذلك في هذه الأزمان إلا من الغيلانيات ، وجزء الأنصاري ، وجزء الغطريف فقط . أو ما هو مأخوذ منها . ولا يقع لأمثالنا من الصحيح المتصل بالسماع ، إلا عشاري الإسناد ، وقد يقع لنا التساعي الصحيح ، ولكن بإجازة في الطريق ،والله أعلم .

وقول الذهبي في تأريخ الإسلام في ترجمة ابن البخاري : وهو آخر من كان في الدنيا بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثمانية رجال ثقات ، فإنه يريد مع اتصال السماع . أما مع الإجازة فقد تأخر بعده جماعة ، والله أعلم [ ص: 62 ] .

والقسم الثاني من أقسام العلو : القرب إلى إمام من أئمة الحديث ، كالأعمش وهشيم ، وابن جريج ، والأوزاعي ، ومالك ، وسفيان ، وشعبة ، وزهير ، وحماد بن زيد ، وإسماعيل بن علية ، وغيرهم من أئمة الحديث . وكلام الحاكم يشير إلى ترجيح هذا القسم على غيره ، وأنه المقصود من العلو ، وإنما يوصف بالعلو إذا صح الإسناد إلى ذلك الإمام بالعدد اليسير ، كما صرح به الحاكم ، وهو كذلك ، كما مر في القسم الأول . وأعلى ما يقع اليوم للشيوخ بينهم وبين هؤلاء الأئمة من حيث العدد مع صحة السند ، واتصاله بالسماع أن بينهم وبين الأعمش وهشيم ، وابن جريج ، والأوزاعي ، ثمانية . وبينهم وبين مالك والثوري ، وشعبة ، وزهير ، وحماد بن سلمة ، سبعة ، وبينهم وبين ابن علية ستة . وقد ساوينا الشيوخ بالنسبة إلى هشيم ، فبيننا وبينه سبعة بالسماع الصحيح المتصل .

والقسم الثالث : العلو المقيد بالنسبة إلى رواية الصحيحين ، وبقية الكتب الستة . وسماه ابن دقيق العيد : علو التنزيل ، ولم يذكر ابن طاهر هذا القسم ، وجعل القسم الثالث : علو تقدم السماع ، وجمع بينه وبين قسم تقدم الوفاة ، فجعلهما قسما واحدا ، كما سيأتي ولكن هذا القسم يؤخذ من كلام ابن طاهر في آخر الجزء المذكور ، وإن لم يذكره في الأقسام . وليس هذا علوا مطلقا في جميع هذا القسم ، وإنما هو بالنسبة لهذه الكتب ، إذ الراوي لو روى الحديث من طريق كتاب من الستة يقع أنزل مما لو رواه من غير طريقها ، وقد يكون عاليا مطلقا أيضا ، مثاله : حديث رواه الترمذي لابن مسعود مرفوعا : يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف . . . الحديث [ ص: 63 ] .

رواه الترمذي عن علي بن حجر عن خلف بن خليفة . فلو رويناه من طريق الترمذي وقع بيننا وبين خلف تسعة ، فإذا رويناه من جزء بن عرفة ، وقع بيننا وبينه سبعة بعلو درجتين . فهذا مع كونه علوا بالنسبة ، فهو أيضا علو مطلق ، ولا يقع اليوم لأحد هذا الحديث أعلى من هذا ، وكل واحد من شيخنا فمن بعده إلى خلف هو آخر من رواه عن شيخه بالسماع من الجزء المذكور ، وقول ابن الصلاح : "إن هذا النوع من العلو ، علو تابع لنزول" محمول على الغالب ، وإلا فهذا الحديث المذكور عال للترمذي ، وعال لنا ، وليس هو عاليا بالنسبة فقط . وهذا النوع هو الذي يقع فيه الموافقات ، والإبدال ، والمساواة ، والمصافحات ، على ما سيأتي بيانها .

التالي السابق


الخدمات العلمية