صفحة جزء
[ ص: 72 ] الغريب ، والعزيز ، والمشهور


748 . وما به مطلقا الراوي انفرد فهو الغريب وابن مندة فحد      749 . بالانفراد عن إمام يجمع
حديثه فإن عليه يتبع      750 . من واحد واثنين فالعزيز أو
فوق فمشهور وكل قد رأوا      751 . منه الصحيح والضعيف ثم قد
يغرب مطلقا أو إسنادا فقد


قال ابن الصلاح : " الحديث الذي ينفرد به بعض الرواة ، يوصف بالغريب ، قال : وكذلك الحديث الذي ينفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره ، إما في متنه ، وإما [ ص: 73 ] في إسناده" . وروينا عن أبي عبد الله بن منده قال : الغريب من الحديث كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى غريبا ، فإذا روى عنهم رجلان ، أو ثلاثة ، واشتركوا يسمى عزيزا ، فإذا روى الجماعة عنهم حديثا ، يسمى مشهورا ، وهكذا قال محمد بن طاهر المقدسي ، وكأنه أخذه من كلام ابن منده .

وقولي : (وكل قد رأوا ، منه الصحيح والضعيف) أي : إن وصف الحديث بكونه مشهورا ، أو عزيزا ، أو غريبا ، ينافي الصحة ، ولا الضعف ، بل قد يكون مشهورا صحيحا ، أو مشهورا ضعيفا ، أو غريبا صحيحا ، أو غريبا ضعيفا ، أو عزيزا صحيحا ، أو عزيزا ضعيفا . ولم يذكر ابن الصلاح كون العزيز يكون منه الصحيح والضعيف ، بل ذكر ذلك في المشهور والغريب فقط . ومثل المشهور الصحيح بحديث : "الأعمال بالنيات" وتبع في ذلك الحاكم ، وفيه نظر ، فإن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد ، وأول الإسناد فرد ، كما تقدم . وقد نبه على ذلك ابن الصلاح في آخر النوع الحادي والثلاثين ، وهو الذي يلي نوع المشهور ، وكان ينبغي له أن يمثل بغيره مما مثل به الحاكم أيضا ، كحديث : "إن الله لا يقبض العلم [ ص: 74 ] انتزاعا ، . . . " وحديث : "من أتى الجمعة فليغتسل ، . . . " ، وحديث رفع اليدين في الصلاة ، وغير ذلك . ومثل ابن الصلاح المشهور الذي ليس بصحيح ، بحديث : "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ، وتبع في ذلك أيضا الحاكم ، وقد صحح [ ص: 75 ] بعض الأئمة بعض طرق الحديث ، كما بينته في تخريج أحاديث الإحياء . ومثله الحاكم أيضا ، بحديث : "الأذنان من الرأس" . وبأمثلة كثيرة بعضها صحيح ، وإن لم تخرج في واحد من الصحيحين .

وذكر ابن الصلاح في أمثلته ما بلغه عن أحمد بن حنبل ، قال : أربعة أحاديث تدور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسواق ، ليس لها أصل : "من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة" ، "ومن آذى ذميا ، فأنا خصمه يوم القيامة" ، "ويوم نحركم يوم صومكم" ، "وللسائل حق ، وإن جاء على فرس" ، قلت : [ ص: 76 ] وهذا لا يصح عن أحمد ، وقد أخرج أحمد في مسنده هذا الحديث الرابع عن وكيع ، وعبد الرحمن بن مهدي ، كلاهما عن سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى ابن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها حسين بن علي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو إسناد جيد . ويعلى وإن جهله أبو حاتم ، فقد وثقه أبو حاتم بن حبان . وأما مصعب ، فوثقه يحيى بن معين ، وغيره . وأخرجه أبو داود في سننه وسكت عنه ، فهو عنده صالح . وأخرجه أيضا من حديث علي ، وفي إسناده من لم يسم . ورويناه أيضا من حديث ابن عباس ، ومن حديث الهرماس بن زياد .

وأما حديث : "من آذى ذميا" فقد رواه بنحوه أبو داود أيضا ، وسكت عليه ، من رواية صفوان بن سليم ، عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم دنية عن [ ص: 77 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : "ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا من غير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة" . وهذا إسناد جيد ، وإن كان فيه من لم يسم ، فإنهم عدة من أبناء الصحابة يبلغون حد التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة . فقد روينا في سنن البيهقي ، وفيه : "عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" .

وأما الحديثان الآخران فلا أصل لهما كما ذكر . وأما مثال الغريب الصحيح ، فكأفراد الصحيح ، وهي كثيرة ، منها حديث مالك عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، مرفوعا : "السفر قطعة من العذاب" . وأما الغريب الذي ليس بصحيح فهو الغالب على الغرائب . وقد روينا عن أحمد بن حنبل ، قال : "لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب ، فإنها مناكير ، وعامتها عن الضعفاء" . وروينا عن مالك قال : شر العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس . وروينا عن عبد الرزاق قال : كنا نرى أن غريب الحديث خير ، فإذا هو شر . وقسم الحاكم الغريب إلى ثلاثة أنواع : غرائب الصحيح ، وغرائب الشيوخ ، وغرائب المتون . وقسمه ابن طاهر إلى خمسة أنواع . وقال ابن الصلاح : إن من الغريب ما هو [ ص: 78 ] غريب متنا ، وإسنادا ، وهو الحديث الذي تفرد برواية متنه راو واحد . ومنه ما هو غريب إسنادا لا متنا ، كالحديث الذي متنه معروف ، مروي عن جماعة من الصحابة ، إذا تفرد بعضهم بروايته عن صحابي آخر ، كان غريبا من ذلك الوجه . قال ومن ذلك : غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة ، قال : وهذا الذي يقول فيه الترمذي : غريب من هذا الوجه ، قلت : وأشرت إلى القسم الأول بقولي : (ثم قد يغرب مطلقا) ، وإلى الثاني بقولي : (أو إسنادا فقد) أي : فقط .

قال ابن الصلاح : ولا أرى هذا النوع ينعكس ، فلا يوجد إذا ما هو غريب متنا ، وليس غريبا إسنادا ، وإلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن تفرد به ، فرواه عنه عدد كثيرون ، فإن إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول ، متصف بالشهرة في طرفه الآخر ، كحديث : "إنما الأعمال بالنيات" ، وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف المشتهرة ، هكذا قال ابن الصلاح : إنه لا يوجد ما هو غريب متنا لا سندا ، إلا بالتأويل الذي ذكره . وقد أطلق أبو الفتح اليعمري ذكر هذا النوع في جملة أنواع الغريب من غير تقيد بآخر السند ، فقال في شرح الترمذي : "الغريب على أقسام : غريب سندا ومتنا ، ومتنا لا سندا ، وسندا لا متنا ، وغريب بعض السند فقط ، وغريب بعض المتن فقط" . فالقسم الأول واضح ، والقسم الثاني هو الذي أطلقه أبو الفتح ، ولم يذكر له مثالا ، والقسم الثالث مثاله حديث رواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : "الأعمال بالنية" . قال الخليلي في [ ص: 79 ] الإرشاد : "أخطأ فيه عبد المجيد ، وهو غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه ، قال : فهذا مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة" . وقال أبو الفتح اليعمري : "هذا إسناد غريب كله ، والمتن صحيح" ، والقسم الرابع مثاله حديث رواه الطبراني في المعجم الكبير من رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، ومن رواية عباد بن منصور ، فرقهما كلاهما عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة بحديث أم زرع .

والمحفوظ ما رواه عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أخيه عبد الله بن عروة ، عن عروة عن عائشة . هكذا اتفق عليه الشيخان . وكذا رواه مسلم من رواية سعيد بن سلمة بن أبي الحسام ، عن هشام . قال أبو الفتح : "فهذه غرابة تخص موضعا من السند ، والحديث صحيح" قلت : ويصلح ما ذكرناه من عند الطبراني مثالا للقسم الخامس ; لأن عبد العزيز وعبادا جعلا جميع الحديث مرفوعا ، وإنما المرفوع منه قوله - صلى الله عليه وسلم - : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" ، فهذا غرابة بعض المتن ، أيضا .

والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية