صفحة جزء
ومثال العلة في المتن: ما انفرد مسلم بإخراجه في حديث أنس من اللفظ المصرح بنفي قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم" فعلل قوم رواية اللفظ المذكور لما رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه: "فكانوا يستفتحون القراءة بـ الحمد لله رب العالمين " من غير تعرض لذكر البسملة، وهو الذي اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في الصحيح، ورأوا أن من رواه باللفظ المذكور رواه بالمعنى الذي وقع له.

ففهم من قوله: "كانوا يستفتحون بالحمد" أنهم كانوا لا يبسملون، فرواه على ما فهم، وأخطأ؛ لأن معناه أن السورة التي كانوا يفتتحون بها من السور هي الفاتحة، وليس فيه تعرض لذكر التسمية.


[ ص: 510 ] 70 - قوله: (ومثال العلة في المتن: ما انفرد مسلم بإخراجه في حديث أنس من اللفظ المصرح بنفي قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم" فعلل قوم رواية اللفظ المذكور لما رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه: "فكانوا يستفتحون القراءة بـ الحمد لله رب العالمين " من غير تعرض لذكر البسملة) إلى آخر كلامه.

وربما يعترض معترض على المصنف: بأنك قدمت أن ما أخرجه أحد الشيخين البخاري أو مسلم مقطوع بصحته، فكيف تضعف هذا وهو فيما أودعه مسلم كتابه؟ وأيضا فلم تعين من أعله حتى ننظر محله من العلم، وما حكيته عن قوم لم تسمهم أنهم أعلوه معارض أيضا بقول أبي الفرج بن الجوزي في التحقيق عقب حديث أنس هذا: "إن الأئمة اتفقوا على صحته".

[ ص: 511 ] والجواب عن ذلك أن المصنف لما قدم أن ما أخرجه أحد الشيخين مقطوع بصحته قال: "سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره" انتهى كلام المصنف، فقد استثنى أحرفا يسيرة، وهذا منها.

وقد أعله جماعة من الحفاظ الشافعي والدارقطني وابن عبد البر - رحمهم الله - ولنذكر كلامهم في ذلك ليتضح ما أعلوه به.

فأما كلام الشافعي رحمه الله فقد ذكره عنه البيهقي في كتاب (معرفة السنن والآثار) وأنه قاله في سنن حرملة جوابا لسؤال أورده، وصورة السؤال: "فإن قال قائل: قد روى مالك، عن حميد، عن أنس، قال: صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم".

قال الشافعي: "قل له: خالفه سفيان بن عيينة والفزاري والثقفي، وعدد لقيتهم سبعة أو ثمانية، مؤتفقين، مخالفين له" قال: "والعدد الكثير أولى بالحفظ من واحد" ثم رجح روايتهم بما رواه عن سفيان، عن أيوب، عن قتادة، عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يفتتحون القراءة بـ الحمد لله رب العالمين .

قال الشافعي: "يعني يبدؤون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، ولا يعني أنهم يتركون بسم الله الرحمن الرحيم.

[ ص: 512 ] وحكى الترمذي في جامعه عن الشافعي قال: "إنما معنى هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة بـ الحمد لله رب العالمين معناه أنهم كانوا يبدؤون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه أنهم كانوا لا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم" انتهى.

وما أوله به الشافعي مصرح به في رواية الدارقطني "فكانوا يستفتحون بأم القرآن فيما يجهر به". قال الدارقطني: "هذا صحيح" وقال الدارقطني أيضا: "إن المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس أنهم كانوا يستفتحون بـ الحمد لله رب العالمين ليس فيه تعرض لنفي البسملة" وكذا قال البيهقي: "إن أكثر أصحاب قتادة رووه عن قتادة كذلك" قال: "وهكذا رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وثابت البناني، عن أنس" انتهى.

وأما تضعيف ابن عبد البر له بالاضطراب فإنه قال في كتاب (الاستذكار): "اختلف عليهم في لفظه اختلافا كثيرا مضطربا متدافعا، منهم من يقول: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، ومنهم من يذكر عثمان ومنهم من لا يذكره، فكانوا لا يقرؤون: بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من قال: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال كثير منهم: فكانوا يفتتحون القراءة بـ الحمد لله رب العالمين وقال بعضهم: فكانوا [ ص: 513 ] يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال بعضهم: كانوا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم" قال: "وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء الذين يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم والذين لا يقرؤونها".

وقال ابن عبد البر أيضا في كتاب الإنصاف في البسملة بعد أن رواه من رواية أيوب وشعبة وهشام الدستوائي وشيبان بن عبد الرحمن وسعيد بن أبي عروبة وأبي عوانة: "فهؤلاء حفاظ أصحاب قتادة ليس في روايتهم لهذا الحديث ما يوجب سقوط بسم الله الرحمن الرحيم من أول فاتحة الكتاب" انتهى.

[ ص: 514 ] فهذا كلام أئمة الحديث في تعليل هذا الحديث، فكيف يقول ابن الجوزي: إن الأئمة اتفقوا على صحته؟ أفلا يقدح كلام هؤلاء في الاتفاق الذي نقله؟ وقد رأيت أن أبين علل الرواية التي فيها نفي البسملة من حيث صيغة الإسناد، فأقول:

قد ذكر ترك البسملة في حديث أنس من ثلاثة طرق، وهي: رواية حميد عن أنس، ورواية قتادة عن أنس، ورواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس.

[ ص: 515 ] فأما رواية حميد فقد تقدم أن مالكا رواها في الموطأ عنه، وأن الشافعي رضي الله عنه تكلم فيها لمخالفة سبعة أو ثمانية من شيوخه في ذلك، وأيضا فقد ذكر ابن عبد البر في كتاب الإنصاف ما يقتضي انقطاعه بين حميد وأنس، فقال: "ويقولون: إن أكثر رواية حميد عن أنس أنه سمعها من قتادة عن أنس".

وقد ورد التصريح بذكر قتادة بينهما فيما رواه ابن أبي عدي، عن حميد، عن قتادة، عن أنس، فآلت برواية حميد إلى رواية قتادة.

وأما رواية مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي، عن قتادة، أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك، أنه حدثه قال: "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بـ الحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في [ ص: 516 ] أول قراءة ولا في آخرها" فقد بين الأوزاعي في روايته أنه لم يسمعه من قتادة، وإنما كتب إليه به، والخلاف في صحة الرواية بالكتابة معروف، وعلى تقدير صحتها فأصحاب قتادة الذين سمعوه منهم أيوب وأبو عوانة وغيرهما لم يتعرضوا لنفي البسملة كما تقدم، وأيضا ففي طريق مسلم: الوليد بن مسلم، وهو مدلس، وإن كان قد صرح بسماعه من الأوزاعي فإنه يدلس تدليس التسوية، أي يسقط شيخ شيخه الضعيف، كما تقدم نقله عنه، نعم لمسلم من رواية شعبة، عن قتادة، عن أنس: "فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم" ولا يلزم من نفي السماع عدم الوقوع بخلاف الرواية المتقدمة.

[ ص: 517 ] وأما رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة فهي عند مسلم أيضا، ولم يسق لفظها، وإنما ذكرها بعد رواية الأوزاعي، عن قتادة، عن أنس، فقال: ثنا محمد بن مهران، ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك، فاقتضى إيراد مسلم لهذه الرواية أن لفظها مثل الرواية التي قبلها، وليس كذلك؛ فقد رواها ابن عبد البر في كتاب الإنصاف من رواية محمد بن كثير، قال: ثنا الأوزاعي، فذكرها بلفظ: "كانوا يفتتحون القراءة بـ الحمد لله رب العالمين " ليس فيها تعرض لنفي البسملة موافقا لرواية الأكثرين، وهذا موافق لما قدمنا نقله عن البيهقي من أن رواية إسحاق بن عبد الله عن أنس لهذا الحديث كرواية أكثر أصحاب قتادة أنه ليس فيها تعرض لنفي البسملة. فقد اتفق ابن عبد البر والبيهقي على مخالفة رواية إسحاق للرواية التي فيها نفي البسملة.

وعلى هذا فما فعله مسلم - رحمه الله - هنا ليس بجيد؛ لأنه أحال بحديث على آخر، وهو مخالف له بلفظ "فذكر ذلك" لم يقل: "نحو ذلك" ولا غيره، فإن كانت الرواية التي وقعت لمسلم لفظها كالتي قبلها التي أحال عليها، فترجح رواية ابن عبد البر عليها؛ لأن رواية مسلم من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي معنعنا، ورواية ابن عبد البر من طريق محمد بن كثير: حدثنا الأوزاعي، وصرح بلفظ الرواية، فهي أولى بالصحة ممن أبهم اللفظ، وفي طريقه مدلس عنعنه، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية