صفحة جزء
ثم إن كون الواحد منهم صحابيا تارة يعرف بالتواتر، وتارة بالاستفاضة القاصرة عن التواتر، وتارة بأن يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارة بقوله وإخباره عن نفسه - بعد ثبوت عدالته - بأنه صحابي، والله أعلم .


[ ص: 887 ] 142 - قوله: (ثم إن كون الواحد منهم صحابيا تارة يعرف بالتواتر، وتارة بالاستفاضة القاصرة عن التواتر، وتارة بأن يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارة بقوله وإخباره عن نفسه - بعد ثبوت عدالته - بأنه صحابي) انتهى.

هكذا أطلق المصنف أنه يقبل قول من ثبتت عدالته أنه صحابي، وتبع في ذلك الخطيب؛ فإنه قال في (الكفاية) في آخر كلام رواه عن القاضي أبي بكر الباقلاني ما صورته: "وقد يحكم بأنه صحابي إذا كان ثقة أمينا مقبول القول، إذا قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وكثر لقائي له، فيحكم بأنه صحابي في الظاهر؛ لموضع عدالته، وقبول خبره، وإن لم نقطع بذلك، كما يعمل بروايته" انتهى.

والظاهر أن هذا الكلام بقية كلام القاضي أبو بكر؛ فإنه يشترط في [ ص: 888 ] الصحابي كثرة الصحبة، واستمرار اللقاء، كما تقدم نقله عنه. وأما الخطيب فلا يشترط ذلك على رأي المحدثين.

وعلى كل تقدير فلابد من تقييد ما أطلقه بأن يكون ادعاؤه لذلك يقتضيه الظاهر.

أما لو ادعاه بعد مائة سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقبل ذلك منه، كجماعة ادعوا الصحبة بعد ذلك: كأبي الدنيا الأشج، ومكلبة بن ملكان، ورتن الهندي، [ ص: 889 ] فقد أجمع أهل الحديث على تكذيبهم في ذلك؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد" الحديث.

وكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل موته بشهر، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: "سلوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة" وفي رواية له: "ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ" وهذه الرواية المقيدة بـ(اليوم) يحمل عليها قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث جابر عند مسلم: "ما من نفس منفوسة تبلغ مائة سنة" فقد رأيت بعض أهل العلم استدل بهذه الرواية على أن أحدا لا يعيش مائة سنة، ونازعته في ذلك، فأصر عليه، مع أن في بقية الحديث عنده فقال سالم - يعني ابن أبي الجعد وهو الراوي له عن جابر - تذاكرنا ذلك عنده، إنما هي: "كل نفس مخلوقة يومئذ".

[ ص: 890 ] وعند مسلم أيضا من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم".

والصواب أن ذلك محمول على التقييد بالظرف، فقد جاوز جماعة من العلماء المائة، وحدثوا بعد المائة، وهم معروفو المولد، كالقاضي طاهر بن عبد الله الطبري، أحد أئمة الشافعية، والحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي، وغيرهما، وقد ورد في بعض طرق هذا الحديث "أن المراد بالمائة من الهجرة لا من وفاته صلى الله عليه وسلم" رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من رواية قيس بن وهب الهمداني، عن أنس قال: ثنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأتي مائة سنة من الهجرة ومنكم عين تطرف".

وهذا يرد قول من ادعى أنه تأخر بعد [ ص: 891 ] أبي الطفيل أحد من الصحابة، كما سيأتي ذلك في آخر من مات من الصحابة إن شاء الله تعالى.

فعلى هذا لا يقبل قول أحد ادعى الصحبة بعد مائة سنة من الهجرة، وكلام الأصوليين أيضا يقتضي ما ذكرناه؛ فإنهم اشترطوا في ثبوت ذلك بادعائه أن يكون قد عرفت معاصرته للنبي صلى الله عليه وسلم، قال الآمدي في (الأحكام): "فلو قال من عاصره: أنا صحابي، مع إسلامه وعدالته - فالظاهر صدقه" وحكاهما ابن الحاجب احتمالين من غير ترجيح، قال: "ويحتمل أن لا يصدق؛ لكونه متهما بدعوى رتبة يثبتها لنفسه" والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية