صفحة جزء
64 - قوله: (ص): "والمشهور التسوية بين التابعين .

أقول: لم يمعن المؤلف في الكلام على المرسل في حكاية الخلاف في حده والتفريع عليه.

[جمع الحافظ لأقوال أهل العلم في المراسيل] :

وقد جمعت كثيرا من أقوال أهل العلم فيه يحتاج إليها المحدث وغيره.

أما أصله: فقيل مأخوذ من الإطلاق وعدم المنع كقوله تعالى: أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين .

فكأن المرسل أطلق الإسناد.

وقيل: مأخوذ من قولهم: "جاء القوم أرسالا أي متفرقين"; لأن بعض الإسناد منقطع عن بقيته.

وقيل: مأخوذ من قولهم: "ناقة رسل" أي سريعة السير كأن المرسل للحديث أسرع فيه فحذف بعض إسناده.

[ ص: 543 ] [ حد المرسل اصطلاحا :]

وأما حده: فاختلفت عباراتهم فيه على أربعة أوجه:

الأول: هو ما أضافه التابعي الكبير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخرج بذلك ما أضافه صغار التابعين ومن بعدهم.

والثاني : هو ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير تقييد بالكبير.

وهذا الذي عليه جمهور المحدثين، ولم أر تقييده بالكبير صريحا عن أحد، لكن نقله ابن عبد البر عن قوم ، بخلاف ما يوهمه كلام المصنف. نعم قيد الشافعي المرسل الذي يقبل - إذا اعتضد - بأن يكون من رواية التابعي الكبير.

ولا يلزم من ذلك، أنه لا يسمى ما رواه التابعي الصغير مرسلا.

والشافعي مصرح بتسمية رواية من دون كبار التابعين مرسلة وذلك في قوله: "ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة .

والثالث: ما سقط منه رجل وهو على هذا هو والمنقطع سواء وهذا مذهب أكثر الأصوليين .

قال الأستاذ أبو منصور : "والمرسل: ما سقط من إسناده واحد، فإن سقط أكثر من واحد فهو معضل" .

[ ص: 544 ] وقال أبو الحسين ابن القطان : "المرسل: أن يروي بعض التابعين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرا أو يروي رجل عمن لم يره".

قلت: وهذا اختيار أبي داود في مراسيله ، والخطيب وجماعة، لكن الذي قبله أكثر في الاستعمال.

والرابع: قول غير الصحابي - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبهذا التعريف أطلق ابن الحاجب وقبله الآمدي والشيخ الموفق وغيرهم، فيدخل في عمومه كل من لم تصح له صحبة ولو تأخر عصره.

وقال الغزالي : وصورة المرسل : أن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يعاصره" .

وهذا أخص قليلا من الذي قبله، لأنه يدخل فيه من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال الكفر، ثم استمر كافرا فلم يسلم إلا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن هذا لا تصح له صحبة وهو على تعريف الغزالي لا يكون حديثه مرسلا.

[ ص: 545 ] وقال الحافظ العلائي : "إطلاق ابن الحاجب وغيره، يظهر عند التأمل في أثناء استدلالهم أنهم لا يريدونه، بل إنما مرادهم ما سقط منه التابعي مع الصحابي أو ما سقط منه اثنان بعد الصحابي ونحو ذلك، ويدل عليه قول إمام الحرمين في البرهان: مثاله: أن يقول الشافعي - رضي الله تعالى عنه - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا .

قال: ولم أر من صرح بحمله على إطلاقه إلا بعض المتأخرين من غلاة الحنفية . وهو اتساع غير مرضي، لأنه يلزم منه بطلان اعتبار الإسناد الذي هو من خصائص هذه الأمة، وترك النظر في أحوال الرواة، والإجماع في كل عصر على خلاف ذلك فظهور فساده (غني) عن الإطالة فيه".

قلت: ويؤيده قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني - في كتابه [في الأصول] -: "المرسل رواية التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تابع التابعي (عن الصحابي)، فأما إذا قال تابع التابعي أو واحد منا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يعد شيئا، ولا يقع به ترجيح [فضلا] عن الاحتجاج به.

وهذا ظاهر كلام ابن برهان - أيضا - .

وممن قيد الإطلاق الأستاذ أبو بكر ابن فورك ، فقال:

[ ص: 546 ] "المرسل: قول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – كذا" . نقله عنه المازري .

فإن قيل ما احترز به الغزالي - رحمه الله تعالى - كما قدمته، قد ينقدح منه قدح في صحة التعريف الذي أخبرت أنه قول الجمهور، وذلك لأن قولهم: المرسل ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل فيه ما سمعه بعض الناس في حال كفره من النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم أسلم) بعده وحدث عنه بما سمعه منه، فإن هذا والحالة هذه تابعي قطعا وسماعه منه صحيح متصل وهو داخل في حد المرسل الذي ذكرته.

[تعريف الحافظ للمرسل] :

قلت: وهذا عندي نقض صحيح واعتراض وارد لا محيد عنه ولا انفصال منه إلا أن يزاد في الحد ما يخرجه، وهو: أن يقول: المرسل: ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مما سمعه من غيره.

[أقوال العلماء في حكم المرسل ] :

وأما حكم المرسل:

فاختلفوا في الاحتجاج به على أقوال:

أحدها: الرد مطلقا حتى لمراسيل الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - وحكي ذلك عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني .

[ ص: 547 ] وظن قوم أنه تفرد بذلك، واحتجوا عليه بالإجماع، وليس بجيد لأن القاضي أبا بكر الباقلاني قد صرح في التقريب بأن المرسل لا يقبل مطلقا حتى مراسيل الصحابة - رضي الله عنهم - لا لأجل الشك في عدالتهم، بل لأجل أنهم قد يروون عن التابعين. قال: إلا أن يخبر عن نفسه بأنه لا يروي إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابي فحينئذ يجب العمل بمرسله .

قلت: نقل عنه الغزالي في المنخول أن المختار عنده، أن الإمام العدل إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أخبرني الثقة قبل. فأما الفقهاء والمتوسعون في كلامهم فقد يقولونه لا عن تثبت فلا يقبل منهم، لأن الرواية قد كثر وطال البحث واتسعت الطرق، فلا بد من ذكر اسم الرجل" .

قال الغزالي : والأمر كما ذكر، لكن لو صادفنا في زماننا متقنا في نقل الأحاديث مثل مالك قبلنا قوله ولا يختلف ذلك بالأعصار (يعني أن الحكم لا يختلف جوازا) وأن الواقع أن أهل الأعصار المتأخرة ليس فيهم من هو بتلك المثابة. وقد قال القاضي عبد الجبار : مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أن الصحابي - رضي الله تعالى عنه - إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا قبل إلا أن علم أنه أرسله" .

وهذا النقل مخالف للمشهور من مذهب الشافعي .

فقد قال ابن برهان في الوجيز: "مذهب الشافعي : إن المراسيل لا يجوز الاحتجاج بها إلا مراسيل الصحابة - رضي الله عنهم - ومراسيل سعيد بن المسيب ، وما انعقد الإجماع على العمل به.

[ ص: 548 ] وكذا ما نقله ابن بطال في أوائل شرح البخاري عن الشافعي أن المرسل عنده ليس بحجة حتى مرسل الصحابة.

ثم أغرب ابن برهان فقال في الأوسط: إن الصحيح أنه لا فرق بين مراسيل الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - ومراسيل غيرهم.

فتلخص من هذا أن الأستاذ أبا إسحاق لم ينفرد برد مراسيل الصحابة - رضي الله عنهم- وأن مأخذه في ذلك احتمال كون الصحابي - رضي الله تعالى عنه - أخذه عن تابعي.

وجوابه: أن الظاهر فيما رووه أنهم سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صحابي سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وأما روايتهم عن التابعي فقليلة نادرة، فقد تتبعت وجمعت لقلتها.

قلت: وقد سردها شيخنا - رحمه الله - في النكت فأفاد وأجاد .

ثانيها: القبول مطلقا في جميع الأعصار والأمصار. كما قدمنا حكايته ورده .

ثالثها: قبول مراسيل الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - فقط ورد ما عداها مطلقا حكاه القاضي عبد الجبار في شرح كتاب العمدة.

قلت: وهو الذي عليه عمل أئمة الحديث.

[ ص: 549 ] واحتجوا بأن العلماء قد أجمعوا على طلب عدالة المخبر.

وإذا روى التابعي عمن لم يلقه لم يكن بد من معرفة الواسطة.

ولم يتقيد التابعون بروايتهم عن الصحابة - رضي الله عنهم - بل رووا عن الصحابة وغيرهم.

(ولم يتقيدوا) بروايتهم عن ثقات التابعين بل رووا عن الثقات والضعفاء.

فهذه النكتة في رد المرسل قاله بمعناه ابن عبد البر .

وقال صاحب المحصول: "الحجة في رد المرسل أن عدالة الأصل غير معلومة، لأنه لم يوجد إلا من رواية الفرع عنه. ورواية الفرع عنه لا تكون بمجردها تعديلا، لأنهم قد أرسلوا عمن سئلوا عنه فجرحوه أو توقفوا فيه.

قال: وعلى تقدير أن يكون تعديلا، فلا يقتضي أن يكون عدلا في نفس الأمر، لاحتمال أنه لو سماه لعرف بالجرح فتبين أن العدالة غير معلومة" .

فإن قيل: إن أردتم نفي العلم القطعي، فالعلم القطعي بثبوت عدالة الراوي غير مشروط، بل يكفي غلبة الظن وهي حاصلة لأن ظاهر حال الراوي أنه لما روى عنه وسكت كان عدلا عنده وإلا كان ذلك قدحا فيه. وإذا كان معتقدا عدالة من أرسل عنه فالظاهر أنه كذلك في نفس الأمر.

والجواب: المنع بأنه إذا اعتقد عدالته يكون عدلا في نفس الأمر وسنده عدم التلازم بينهما، بل الواقع خلافه.

قال القاضي أبو بكر : "من المعلوم المشاهد أن المحدثين لم يتطابقوا على أن لا يحدثوا إلا عن عدل. بل نجد الكثير منهم يحدثون عن رجال، فإذا سئل [ ص: 550 ] الواحد منهم عن ذلك الرجل قال: لا أعرف حاله بل ربما جزم بكذبه فمن أين يصح الحكم على الراوي أنه لا يرسل إلا عن ثقة عنده" . انتهى كلامه.

فقد اختار رد المرسل مع كونه مالكيا، لكن تعليله يقتضي أن من عرف من عادته أو صريح عبارته أنه لا يرسل إلا عن ثقة أنه يقبل. وسيأتي تقرير هذا المذهب آخرا.

وما قاله القاضي صحيح فإن كثيرا من الأئمة وثقوا خلقا من الرواة بحسب اعتقادهم فيهم وظهر لغيرهم فيهم الجرح المعتبر، وهذا بين واضح في كتب الجرح والتعديل.

فإذا كان مع التصريح بالعدالة فكيف مع السكوت عنها.

وقد فتشت كثيرا من المراسيل فوجدت عن غير العدول.

بل سئل كثير منهم عن مشايخهم، فذكروهم بالجرح كقول أبي حنيفة : ما رأيت أكذب من جابر الجعفي وحديثه عنه موجود.

وقول الشعبي : حدثني الحارث الأعور وكان كذابا وحديثه عنه موجود.

فمن أين يصح الحكم (على) الراوي أنه لا يرسل إلا عن ثقة عنده على الإطلاق .

[ ص: 551 ] رابعها: قبول مراسيل الصحابة وكبار التابعين .

ويقال: إنه مذهب أكثر المتقدمين. وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - لكن شرط في مرسل كبار التابعين أن يعتضد بأحد الأوجه المشهورة .

خامسها: كالرابع لكن من غير قيد بالكبار وهو قول مالك وأصحابه وإحدى الروايتين عن أحمد .

سادسها: كالخامس، لكن بشرط أن يعتضد، ونقله الخطيب عن أكثر الفقهاء.

سابعها: إن كان الذي أرسل من أئمة النقل المرجوع إليهم في التعديل والتجريح قبل مرسله وإلا فلا. وهو قول عيسى بن أبان من الحنفية ، واختاره أبو بكر الرازي منهم، وكثير من متأخريهم، والقاضي عبد الوهاب من المالكية ، بل جعله أبو الوليد الباجي شرطا عند من يقبل المرسل مطلقا .

ثامنها: قبول مراسيل الصحابة - رضي الله عنهم - وبقية القرون الفاضلة دون غيرهم وهو محكي عن محمد بن الحسن ويشير إليه تمثيل إمام الحرمين بما قال - فيه - الشافعي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

تاسعها: كالثامن بزيادة من كان من أئمة النقل أيضا -.

[ ص: 552 ] عاشرها: يقبل مراسيل من عرف منه النظر في أحوال شيوخه والتحري في الرواية عنهم دون من لم يعرف منه ذلك.

حادي عشرها: لا يقبل المرسل إلا إذا وافقه الإجماع فحينئذ يحصل الاستغناء عن السند ويقبل المرسل قاله ابن حزم في الأحكام .

ثاني عشرها: إن كان المرسل موافقا في الجرح والتعديل قبل مرسله وإن كان مخالفا في شروطها لم يقبل.

قاله ابن برهان وهو غريب .

ثالث عشرها: إن كان المرسل عرف من عادته أو صريح عبارته أنه لا يرسل إلا عن ثقة قبل وإلا فلا.

قال الحافظ صلاح الدين العلائي في مقدمة كتاب الأحكام ما حاصله: "إن هذا المذهب الأخير أعدل المذاهب في هذه المسألة، فإن قبول السلف للمراسيل مشهور إذا كان المرسل لا يرسل إلا عن عدل . وقد بالغ ابن عبد البر فنقل اتفاقهم على ذلك فقال: لم يزل الأئمة يحتجون بالمرسل إذا تقارب عصر المرسل والمرسل عنه ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء.

ونقل أبو الوليد الباجي الاتفاق في الشق الآخر فقال: "لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير متحرز يرسل عن الثقات وعن غير الثقات".

[ ص: 553 ] وهذا وإن كان في صحة نقل الاتفاق من الطرفين نظر فإن قبول مثل ذلك عن جمهورهم مشهور، وكذا مقابله ففي مقدمة صحيح مسلم عن محمد بن سيرين قال: "كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة سألوا عنه ليتجنبوا رواية أهل البدع" .

وفيها - أيضا - عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه أنكر على بشير بن كعب أحد التابعين أحاديث أرسلها وقال:

كنا نقبل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل أحد، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نقبل منه إلا ما نعرف.

كذا أنكر الزهري على إسحاق بن أبي فروة أحاديث أرسلها فقال: تأتينا بأحاديث لا خطم لها ولا أزمة ألا تسند حديثك؟.

ونقل إمام الحرمين أن ذلك مذهب الشافعي - رضي الله تعالى عنه - أعني التفصيل السابق فقال:

[ ص: 554 ]

إذا كان المرسل من كبار التابعين وعادته الرواية عن العدل وغيره فليس بحجة، وإن لم يرو إلا عن العدل فحجة.

قال: ولذلك قبل الشافعي مراسيل سعيد بن المسيب ، لأنه انفرد بهذه المزية.

قلت: وهذا مقتضى ما علل به الشافعي قبوله لمراسيل سعيد فإنه قال - في جواب سائل سأله - فقال له: كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعا ولم تقبلوه عن غيره؟ فقال: لأنا لا نحفظ لسعيد منقطعا إلا وجدنا ما يدل على تسديده ولا أثره عن أحد عرفنا عنه إلا عن ثقة معروف.

فمن كان بمثل حاله أحببنا قبول مرسله .

فهذا يدل على أنه قبل مراسيل سعيد بن المسيب ، لكونه كان لا يسمي إلا (عن) ثقة، وأما غيره، فلم يتبين له ذلك منه، فلم يقبله مطلقا وأحال الأمر في قبوله على وجود الشرط المذكور.

وقال الغزالي في "المستصفى" : "المختار على قياس رد المرسل أن التابعي إذا عرف بصريح خبره أو عادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله وإلا فلا، لأنهم قد يروون عن غير الصحابة - رضي الله عنهم-".

[ ص: 555 ] قلت: (ويؤيد) ذلك نقل ابن حبان الاتفاق على قبوله عنعنة سفيان بن عيينة ، مع أنه كان يدلس، لكنه كان مع ذلك لا يدلس إلا عن ثقة، فقبلوا عنعنته لذلك.

وقد تقدم عن القاضي أبي بكر وغيره ما يعضده ذلك - والله أعلم - .

وبهذا المذهب يحصل الجمع بين الأدلة (لطرفي) القبول والرد - والله أعلم - .

[ أسباب الإرسال ] :

فإن قيل : فما الحامل لمن كان لا يرسل إلا عن ثقة على الإرسال؟

قلنا: إن لذلك أسبابا منها:

أن يكون سمع الحديث عن جماعة ثقات وصح عنده، فيرسله اعتمادا على صحته عن شيوخه.

كما صح عن إبراهيم النخعي أنه قال: ما حدثتكم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد سمعته من غير واحد وما حدثتكم فسميت فهو عمن سميت .

ومنها: أن يكون نسي من حدثه به وعرف المتن، فذكره مرسلا لأن أصل طريقته أنه لا يحمل إلا عن ثقة.

ومنها: أن لا يقصد التحديث بأن يذكر الحديث على وجه المذاكرة أو على جهة الفتوى، فيذكر المتن، لأنه المقصود في تلك الحالة دون السند، ولا سيما إن كان السامع عارفا بمن طوى ذكره لشهرته أو غير ذلك من الأسباب.

وهذا كله في حق من لا يرسل إلا عن ثقة.

[ ص: 556 ] وأما من كان يرسل عن كل أحد فربما كان الباعث له على الإرسال ضعف من حدثه، لكن هذا يقتضي القدح في فاعله لما تترتب عليه من الخيانة - والله أعلم

فإن قيل: فهل عرف أحد غير ابن المسيب كان لا يرسل إلا عن ثقة .

قلنا: نعم، فقد صحح الإمام أحمد مراسيل إبراهيم النخعي لكن خصه غيره بحديثه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - كما تقدم .

وأما مراسيله عن غيره، فقال يحيى القطان : "كان شعبة يضعف مرسل إبراهيم النخعي عن علي - رضي الله تعالى عنه .

وقال يحيى بن معين : مراسيل إبراهيم النخعي صحيحة إلا حديث تاجر البحرين وحديث القهقهة".

قلت: وحديث القهقهة مشهور رواه الدارقطني وغيره من طريقه.

وقد أطنب البيهقي في الخلافيات في ذكر طرقه وعلله.

[ ص: 557 ] وأما حديث تاجر البحرين ، فأشار به إلى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن وكيع عن الأعمش ، عن إبراهيم النخعي قال: إن رجلا قال يا رسول الله! إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين .

وقال البيهقي : "من المعلوم أن إبراهيم ما سمع من أحد من الصحابة، فإذا حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون بينه وبينه اثنان أو أكثر فيتوقف في قبوله من هذه الحيثية، وأما إذا حدث عن الصحابة، فإن كان ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد صرح هو بثقة شيوخه عنه وأما عن غيره فلا - والله أعلم .

وصحح ابن عبد البر مراسيل محمد بن سيرين قال: "لأنه كان يتشدد في الأخذ ولا يسمع إلا من ثقة" .

وقوى يحيى القطان مراسيل سعيد بن جبير ومراسيل عمرو بن دينار .

والمحفوظ عن كثير من الأئمة في مقابل ذلك شيء كثير لا يسعه هذا المختصر ومن أراد التبحر في ذلك فليراجع مختصري لتهذيب الكمال - والله الموفق - .

[هل يجوز تعمد الإرسال ] :

فإن قيل: هل يجوز تعمد الإرسال أو يمنع ؟

قلنا: لا يخلو المرسل أن يكون شيخ من أرسل الذي حدث به:

أ - عدلا عنده وعند غيره.

[ ص: 558 ] ب - أو غير عدل عنده وعند غيره .

ج - أو عدلا عنده لا عند غيره.

د - أو غير عدل عنده عدلا عند غيره.

هذه أربعة أقسام:

الأول: جائز بلا خلاف.

والثاني: ممنوع بلا خلاف.

وكل من الثالث والرابع يحتمل الجواز وعدمه.

وتردد بينهما بحسب الأسباب الحاملة عليه - والله سبحانه وتعالى أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية