صفحة جزء
[ تفضيل بعض المغاربة صحيح مسلم على صحيح البخاري : ]

23 - قوله: (ص): "ثم إن كتاب البخاري أصح صحيحا"... إلخ [ ص: 282 ]

أقول: قد وجدت التصريح بما ذكره المصنف من الاحتمال عن بعض المغاربة، فذكر أبو محمد القاسم بن القاسم التجيبي في فهرسته عن أبي محمد بن حزم : أنه كان يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري ؛ لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السرد.

وقال القاضي عياض : كان أبو مروان الطبني حكى عن بعض شيوخه أنه كان يفضل صحيح مسلم على صحيح البخاري . انتهى.

قلت: وما فضله به بعض المغاربة ليس راجعا إلى الأصحية، بل هو لأمور:

أحدها: ما تقدم عن ابن حزم .

والثاني: أن البخاري كان يرى جواز الرواية بالمعنى، وجواز تقطيع الحديث من غير تنصيص على اختصاره بخلاف مسلم والسبب في ذلك أمران: [ ص: 283 ]

أحدهما: أن البخاري صنف كتابه في طول رحلته، فقد روينا عنه أنه قال: رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر ورب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان . فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمتها بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه. ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق.

الثاني: أن البخاري استنبط فقه كتابه من أحاديثه فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا اشتمل على عدة أحكام ليورد كل قطعة منه في الباب الذي يستدل به على ذلك الحكم الذي استنبط منه ؛ لأنه لو ساقه في المواضع كلها برمته لطال الكتاب.

ومسلم لم يعتمد ذلك، بل يسوق أحاديث الباب كلها سردا عاطفا بعضها على بعض في موضع واحد ، ولو كان المتن مشتملا على عدة أحكام، فإنه يذكره في أمس المواضع وأكثرها دخلا فيه ويسوق المتون تامة محررة، فلهذا ترى كثيرا ممن صنف في الأحكام بحذف الأسانيد (من المغاربة) إنما يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون، هذا ما يتعلق بالمغاربة ولا يحفظ عن أحد منهم أنه صرح بأن صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري فيما يرجع إلى نفس الصحة [ ص: 284 ] وأما ما قاله أبو علي النيسابوري فلم نجد عنه تصريحا قط بأن كتاب مسلم أصح من صحيح البخاري .

وإنما قال: ما حكاه المؤلف من أنه نفى الأصحية على كتاب مسلم ، ولا يلزم من ذلك أن يكون كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري ؛ لأن قول القائل: فلان أعلم أهل البلد بفن كذا ليس كقوله: ما في البلد أعلم من فلان بفن كذا؛ لأنه في الأول أثبت له الأعلمية، وفي الثاني نفى أن يكون في البلد أعلم منه، فيجوز أن يكون فيها من يساويه فيه، وإذا كان لفظ أبي علي محتملا لكل من الأمرين فلم نجد ممن اختصر كلام ابن الصلاح فجزم بأن أبا علي قال: صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري فقد رأيت هذه العبارة في كلام الشيخ محيي الدين النووي والقاضي بدر الدين بن جماعة والشيخ تاج الدين التبريزي وتبعهم جماعة. وفي إطلاق ذلك نظر لما بيناه [ ص: 285 ] على أني رأيت في كلام الحافظ أبي سعيد العلائي ما يدل على أن أبا علي النيسابوري ما رأى صحيح البخاري .

وفي ذلك بعد عندي.

أما اعتبار أبي علي بكتاب مسلم فواضح؛ لأنه بلديه وقد خرج هو على كتابه، لكن قوله في وصفه معارض بقول من هو مثله أو أعلم.

فقال الحاكم أبو أحمد النيسابوري وهو عصري أبي علي وأستاذ الحاكم أيضا أبي عبد الله - أيضا ما رويناه عنه في كتاب الإرشاد للخليلي بسنده عنه قال: "رحم الله تعالى محمد بن إسماعيل فإنه ألف الأصول وبين للناس، وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه كمسلم بن الحجاج فإنه فرق أكثر كتابه في كتابه، وتجلد فيه غاية الجلادة حيث لم ينسبه إليه... ".

إلى أن قال: فإن عاند الحق معاند فليس يخفى صورة ذلك على أولي الألباب.

ويؤيد هذا ما رويناه عن الحافظ الفريد أبي الحسن الدارقطني أنه قال في [ ص: 286 ] كلام جرى عنده في ذكر الصحيحين: "وأي شيء صنع مسلم ، إنما أخذ كتاب البخاري وعمل عليه مستخرجا وزاد فيه زيادات".

وهذا المحكي عن الدارقطني جزم به أبو العباس القرطبي في أول كتابه: "المفهم في شرح صحيح مسلم ".

وقال أبو عبد الرحمن النسائي وهو من مشايخ أبي علي النيسابوري : "ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل ".

ونقل كلام الأئمة في تفضيل كتاب البخاري يكثر.

ويكفي من ذلك اتفاقهم على أنه كان أعلم بالفن من مسلم .

وأن مسلما كان يتعلم منه، ويشهد له بالتقدم والتفرد بمعرفة ذلك في عصره.

فهذا من حيث الجملة.

وأما من حيث التفصيل فيترجح كتاب البخاري على كتاب مسلم فإن الإسناد الصحيح مداره على اتصاله وعدالة الرواة كما بيناه غير مرة، وكتاب البخاري أعدل رواة وأشد اتصالا من كتاب مسلم والدليل على ذلك من أوجه:

أحدها: أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلا.

المتكلم فيهم بالضعف (نحو من ثمانين رجلا) [ ص: 287 ] والذين انفرد مسلم بإخراج حديثهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلا.

المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون رجلا على الضعف من كتاب البخاري . ولا شك أن التخريج عن من لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عن من تكلم فيه، ولو كان ذلك غير سديد.

الوجه الثاني: أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكن يكثر من تخريج أحاديثهم، وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها أو أكثرها إلا نسخة عكرمة عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - .

بخلاف مسلم فإنه يخرج أكثر تلك النسخ التي رواها عمن تكلم فيه كأبي الزبير عن جابر - رضي الله تعالى عنه - وسهيل عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - ، وحماد بن سلمة عن ثابت عن أنس - رضي [ ص: 288 ] الله تعالى عنه - والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - ونحوهم.

الوجه الثالث: أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم فميز جيدها من رديها بخلاف مسلم ، فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه من المتقدمين، وقد خرج أكثر نسخهم كما قدمنا ذكره.

ولا شك أن المرء أشد معرفة بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيفه ممن تقدم عن عصرهم.

الوجه الرابع: أن أكثر هؤلاء الرجال الذين تكلم فيهم من المتقدمين يخرج البخاري أحاديثهم غالبا في الاستشهادات، والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم ، فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول والاحتجاج، ولا يعرج البخاري في الغالب على من أخرج لهم مسلم في المتابعات (فأكثر من يخرج لهم البخاري في المتابعات يحتج بهم مسلم ، وأكثر من يخرج لهم مسلم في المتابعات لا يعرج عليهم البخاري ) .

فهذا وجه من وجوه الترجيح ظاهر.

والأوجه الأربعة المتقدمة كلها تتعلق بعدالة الرواة.

وبقي ما يتعلق بالاتصال: وهو الوجه الخامس: [ ص: 289 ] وهو أن مسلما كان مذهبه بل نقل الإجماع في أول صحيحه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما.

والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة. وقد أظهر البخاري هذا المذهب في التأريخ، وجرى عليه في الصحيح، وهو مما يرجح كتابه به، لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال.

وبهذا يتبين أن شرطه في كتابه أقوى اتصالا وأشد تحريا . - والله أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية