صفحة جزء
27 - قوله: (ص): في ذكر المستدرك للحاكم: "وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به ، فالأولى أن نتوسط في أمره... " إلى آخر كلامه.

[زعم الماليني أنه ليس في المستدرك حديث على شرط الشيخين:]

أقول: حكى الحافظ أبو عبد الله الذهبي عن أبي سعد الماليني أنه [ ص: 313 ] قال: طالعت المستدرك على الشيخين الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره فلم أر فيه حديثا على شرطهما.

وقرأت بخط بعض الأئمة أنه رأى بخط عبد الله بن زيدان المسكي قال: أملى علي الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي سنة خمس وتسعين وخمسمائة قال: "نظرت إلى وقت إملائي عليك هذا الكلام فلم أجد حديثا على شرط البخاري ومسلم لم يخرجاه إلا ثلاثة أحاديث:

1 - حديث أنس : "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" .

2 - وحديث الحجاج بن علاط لما أسلم.

[ ص: 314 ] 3 - وحديث علي - رضي الله عنه -: "لا يؤمن العبد حتى يؤمن بأربع" انتهى.

وتعقب الذهبي قول الماليني فقال: هذا غلو وإسراف وإلا ففي المستدرك جملة وافرة على شرطهما، وجملة كثيرة على شرط أحدهما، وهو قدر النصف، وفيه نحو الربع مما صح سنده أو حسن .

وفيه بعض العلل. وباقيه مناكير وواهيات وفي بعضها موضوعات قد أفردتها في جزء . انتهى كلامه.

وهو كلام مجمل يحتاج إلى إيضاح وتبيين.

من الإيضاح أنه ليس جميعه كما قال فنقول:

أ - ينقسم المستدرك أقساما كل قسم منها يمكن تقسيمه:

الأول: أن يكون إسناد الحديث الذي يخرجه محتجا برواته في الصحيحين أو أحدهما على صورة الاجتماع سالما من العلل، واحترزنا بقولنا: على صورة الاجتماع عما احتجا برواته على صورة الانفراد كسفيان بن حسين عن الزهري ، فإنهما احتجا بكل منهما، ولم يحتجا برواية سفيان بن حسين عن الزهري ؛ لأن سماعه من الزهري ضعيف دون بقية مشايخه.

فإذا وجد حديث من روايته عن الزهري لا يقال: على شرط الشيخين؛ [ ص: 315 ] لأنهما احتجا بكل منهما. بل لا يكون على شرطهما إلا إذا احتجا بكل منهما على صورة الاجتماع، وكذا إذا كان الإسناد قد احتج كل منهما برجل منه ولم يحتج بآخر منه، كالحديث الذي يروى عن طريق شعبة مثلا عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ، فإن مسلما احتج بحديث سماك إذا كان من رواية الثقات عنه، ولم يحتج بعكرمة واحتج البخاري بعكرمة دون سماك ، فلا يكون الإسناد والحالة هذه على شرطهما فلا يجتمع فيه صورة الاجتماع، وقد صرح بذلك الإمام أبو الفتح القشيري وغيره.

واحترزت بقولي: أن يكون سالما من العلل بما إذا احتجا بجميع رواته على صورة الاجتماع إلا أن فيهم من وصف بالتدليس أو اختلط في آخر عمره، فإنا نعلم في الجملة أن الشيخين لم يخرجا من رواية المدلسين بالعنعنة إلا ما تحققا أنه مسموع لهم من جهة أخرى ، وكذا لم يخرجا من حديث المختلطين عمن سمع منهم بعد الاختلاط إلا ما تحققا أنه من صحيح حديثهم قبل الاختلاط، فإذا كان كذلك لم يجز الحكم للحديث الذي فيه مدلس قد عنعنه أو شيخ سمع ممن اختلط بعد اختلاطه، بأنه على شرطهما، وإن كانا قد أخرجا ذلك الإسناد بعينه.

إلا إذا صرح المدلس من جهة أخرى بالسماع وصح أن الراوي سمع [ ص: 316 ] من شيخه قبل اختلاطه، فهذا القسم يوصف بكونه على شرطهما أو على شرط أحدهما.

ولا يوجد في المستدرك حديث بهذه الشروط لم يخرجا له نظيرا أو أصلا إلا القليل كما قدمنا.

نعم وفيه جملة مستكثرة بهذه الشروط، لكنها مما أخرجها الشيخان أو أحدهما استدركها الحاكم واهما في ذلك ظنا أنهما لم يخرجاها.

(ب) القسم الثاني: أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته لا على سبيل الاحتجاج بل في الشواهد والمتابعات والتعاليق أو مقرونا بغيره، ويلحق بذلك ما إذا أخرجا لرجل وتجنبا ما تفرد به أو ما خالف فيه، كما أخرج مسلم من نسخة العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - ما لم يتفرد به.

فلا يحسن أن يقال: إن باقي النسخة على شرط مسلم ؛ لأنه ما خرج بعضها إلا بعدما تبين له أن ذلك مما لم ينفرد به. فما كان بهذه المثابة لا يلحق أفراده بشرطهما.

وقد عقد الحاكم في كتاب المدخل بابا مستقلا ذكر فيه من أخرج له الشيخان في المتابعات وعدد ما أخرجا من ذلك، ثم إنه مع هذا الاطلاع يخرج أحاديث هؤلاء في المستدرك زاعما أنها على شرطهما.

ولا شك في نزول أحاديثه عن درجة الصحيح بل ربما كان فيها الشاذ والضعيف، لكن أكثرها لا ينزل عن درجة الحسن .

[ ص: 317 ] والحاكم وإن كان ممن لا يفرق بين الصحيح والحسن بل يجعل الجميع صحيحا تبعا لمشايخه كما قدمناه عن ابن خزيمة وابن حبان ، فإنما يناقش في دعواه أن أحاديث هؤلاء على شرط الشيخين أو أحدهما، وهذا القسم هو عمدة الكتاب.

(ج) القسم الثالث: أن يكون الإسناد لم يخرجا له لا في الاحتجاج ولا في المتابعات. وهذا قد أكثر منه الحاكم ، فيخرج أحاديث عن خلق ليسوا في الكتابين ويصححها، لكن لا يدعي أنها على شرط واحد منهما، وربما ادعى ذلك على سبيل الوهم. وكثير منها يعلق القول بصحتها على سلامتها من بعض رواتها؛ كالحديث الذي أخرجه من طريق الليث عن إسحاق بن بزرج عن الحسن بن علي في التزيين للعيد. قال في أثره:

لولا جهالة إسحاق لحكمت بصحته وكثير منها لا يتعرض للكلام عليه أصلا.

ومن هنا دخلت الآفة كثيرا فيما صححه، وقل أن تجد في هذا القسم حديثا [ ص: 318 ] يلتحق بدرجة الصحيح فضلا عن أن يرتفع إلى درجة الشيخين - والله أعلم - .

ومن العجيب ما وقع للحاكم أنه أخرج لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وقال بعد روايته:

هذا صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن . مع أنه قال في كتابه الذي جمعه في الضعفاء:

عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.

وقال في آخر هذا الكتاب: فهؤلاء الذين ذكرتهم قد ظهر عندي جرحهم؛ لأن الجرح لا أستحله تقليدا. انتهى.

[ ص: 319 ] فكان هذا من عجائب ما وقع له من التساهل والغفلة.

ومن هنا يتبين صحة (قول ابن الأخرم التي قدمناها) .

وأن قول المؤلف أنه يصفو له منه صحيح كثير غير جيد، بل هو قليل بالنسبة إلى أحاديث الكتابين؛ لأن المكرر يقرب من ستة آلاف.

والذي يسلم من المستدرك على شرطهما أو شرط أحدهما مع الاعتبار الذي حررناه دون الألف، فهو قليل بالنسبة إلى ما في الكتابين - والله أعلم - .

وقد بالغ ابن عبد البر فقال: ما معناه أن البخاري ومسلما إذا اجتمعا على ترك إخراج أصل من الأصول فإنه لا يكون له طريق صحيحة وإن وجدت فهي معلولة .

وقال في موضع آخر: "وهذا الأصل لم يخرج البخاري ومسلم شيئا منه وحسبك بذلك ضعفا".

هذا وإن كان لا يقبل منه فهو يعضد قول ابن الأخرم والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية