صفحة جزء
29 - قوله: (ص): - "لما ذكر التعليق الممرض -: وليس في شيء منه حكم [ ص: 324 ] منه بصحة ذلك عمن ذكره عنه... ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه.

وقال - في ذكر التعليق الجازم -: "ثم إن ما يتقاعد من ذلك عن شرط الصحيح قليل يوجد في كتاب البخاري في مواضع من تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه... " انتهى.

أقول: بل الذي يتقاعد عن شرط البخاري كثير ليس بالقليل إلا أن يريد بالقلة قلة نسبية إلى باقي ما في الكتاب فيتجه، بل جزم أبو الحسن ابن القطان بأن التعاليق التي لم يوصل البخاري إسنادها ليست على شرطه ، وإن كان ذلك لا يقبل من ابن القطان على ما سنوضحه.

وأما قول ابن الصلاح - في التعليق الممرض -: ليس في شيء منه حكم بالصحة على من علقه عنه فغير مسلم لأن جميعه صحيح عنده، وإنما يعدل عن الجزم لعلة تزحزحه عن شرطه.

وهذا بشرط أن يسوقه مساق الاحتجاج به، فأما ما أورده من ذلك على سبيل التعليل له والرد أو صرح بضعفه، فلا.

وقد بينت ذلك على وجوهه وأقسامه في كتابي تغليق التعليق.

وأشير هنا إلى طرف من ذلك يكون أنموذجا لما وراءه فأقول: [ ص: 325 ]

[ تقسيم التعليق في البخاري : ]

الأحاديث المرفوعة التي لم يوصل البخاري إسنادها في صحيحه.

أ - منها: ما يوجد في موضع آخر من كتابه .

ب: - ومنها: ما لا يوجد إلا معلقا.

فأما الأول: فالسبب في تعليقه أن البخاري من عادته في صحيحه أن لا يكرر شيئا إلا لفائدة، فإذا كان المتن يشتمل على أحكام كرره في الأبواب بحسبها، أو قطعه في الأبواب إذا كانت الجملة يمكن انفصالها من الجملة الأخرى. ومع ذلك فلا يكرر الإسناد بل يغاير بين رجاله إما شيوخه أو شيوخ شيوخه ونحو ذلك.

فإذا ضاق مخرج الحديث ولم يكن له إلا إسناد واحد، واشتمل على أحكام واحتاج إلى تكريرها، فإنه والحالة هذه إما أن يختصر المتن أو يختصر الإسناد.

وهذا أحد الأسباب في تعليقه الحديث الذي وصله في موضع آخر.

وأما الثاني: وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقا، فهو على صورتين:

إما بصيغة الجزم وإما بصيغة التمريض.

فأما الأول: فهو صحيح إلى من علقه عنه، وبقي النظر فيما أبرز من رجاله، فبعضه يلتحق بشرطه.

والسبب في تعليقه له إما كونه لم يحصل له مسموعا، وإنما أخذه على [ ص: 326 ] طريق المذاكرة أو الإجازة، أو كان قد خرج ما يقوم مقامه، فاستغنى بذلك عن إيراد هذا المعلق مستوفي السياق أو لمعنى غير ذلك، [وبعضه] يتقاعد عن شرطه، وإن صححه غيره أو حسنه، وبعضه يكون ضعيفا من جهة الانقطاع خاصة.

وأما الثاني: وهو المعلق بصيغة التمريض مما لم يورده في موضع آخر فلا يوجد فيه ما يلتحق بشرطه إلا مواضع يسيرة، قد أوردها بهذه الصيغة لكونه ذكرها بالمعنى كما نبه عليه شيخنا رضي الله عنه.

نعم، فيه ما هو صحيح وإن تقاعد عن شرطه إما لكونه لم يخرج لرجاله أو لوجود علة فيه عنده ، ومنه: ما هو حسن، ومنها: ما هو ضعيف وهو على قسمين:

أحدهما: ما ينجبر بأمر آخر. وثانيهما: ما لا يرتقي عن رتبة الضعيف وحيث يكون بهذه المثابة، فإنه يبين ضعفه ويصرح به حيث يورده في كتابه.

ولنذكر أمثلة لما ذكرناه:

فمثال التعليق الجازم الذي يبلغ شرطه ولم يذكره في موضع آخر:

أ - قوله في كتاب الصلاة: وقال إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله [ ص: 327 ] تعالى عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر مسير ويجمع بين المغرب والعشاء .

وهو حديث صحيح على شرط البخاري ، فقد رويناه من طريق أحمد بن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان هكذا. وأحمد وأبوه ومن فوقهما قد أخرج لهم البخاري في صحيحه محتجا بهم.

ب: - وقوله في الوكالة وغيرها: وقال عثمان بن الهيثم ثنا عوف ثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزكاة رمضان... " الحديث بطوله وقد أورده في مواضع مطولا ومختصرا.

[ ص: 328 ] وعثمان من مشايخه الذين سمع منهم الكثير ولم يصرح بسماعه منه لهذا الحديث فالله أعلم هل سمعه أم لا.

ومن الأحاديث التي علقها بحذف جميع الإسناد وهي على شرطه ولم يخرجها في موضع آخر:

ج - قوله في الصيام: وقال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" .

وأخرجه النسائي قال: ثنا محمد بن يحيى ثنا بشر بن عمر ثنا [ ص: 329 ] مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بهذا.

وأصل هذا الحديث عند البخاري بلفظ آخر من حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة .

د - ومثال التعليق الجازم الذي لا يبلغ شرطه وإن كان صحيحا قوله - في الطهارة - وقال بهز (بن حكيم ) عن أبيه عن جده (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) "الله أحق أن يستحيي منه من الناس" .

وهو حديث مشهور أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث بهز ، [ ص: 330 ] وبهز وأبوه وثقهما جماعة. وصحح حديث بهز غير واحد من الأئمة. نعم وتكلم في بهز غير واحد، لكنه لم يتهم ولم يترك.

وقد علق البخاري حديثا من نسخة بهز بن حكيم فلم يذكر إلا الصحابي وهو معاوية بن حيدة جد بهز ، فأتى بصيغة التمريض، وقوله في الطهارة أيضا وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله تعالى على كل أحيانه .

وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق خالد بن سلمة عن عبد الله البهي عن عروة [ ص: 331 ] عن عائشة رضي الله تعالى عنها واستغربه الترمذي .

وخالد تكلم فيه بعض الأئمة وليس هو من شرط البخاري وقد تفرد بهذا الحديث والله أعلم.

؟ - ومثال التعليق الجازم الذي يضعف بسبب الانقطاع:

قوله في كتاب الزكاة وقال طاووس : قال معاذ (يعني ابن جبل رضي الله عنه) لأهل اليمن : "ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - " .

والإسناد صحيح إلى طاووس ، قد رويناه في كتاب الخراج ليحيى بن آدم عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وإبراهيم بن ميسرة عن [ ص: 332 ] طاووس ، لكنه منقطع؛ لأن طاووسا لم يسمع من معاذ رضي الله عنه - والله سبحانه وتعالى أعلم - .

فائدة:

سمى الدمياطي ما يعلقه البخاري عن شيوخه حوالة، فقال في كلامه في حديث أبي أيوب في الذكر: أخرجه البخاري حوالة فقال: قال موسى بن إسماعيل : ثنا وهيب عن داود عن عبد الرحمن بن [ ص: 333 ] أبي ليلى عن أبي أيوب .

(و) ومثال التعليق الممرض الذي يصح إسناده ولا يبلغ شرط البخاري لكونه لم يخرج لبعض رجاله.

قوله في الصلاة: "ويذكر عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال: "قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنون في صلاة الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون عليهما السلام أو ذكر عيسى عليه السلام أخذته سعلة فركع" .

وهو حديث صحيح رواه مسلم من طريق محمد بن عباد بن جعفر عن أبي سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو القاري وعبد الله بن [ ص: 334 ] المسيب - ثلاثتهم عن عبد الله بن السائب - رضي الله تعالى عنه - به.

ولم يخرج البخاري بهذا الإسناد شيئا سوى ما لم يبلغ شرطه، لكونه معللا.

[ ص: 335 ] وقوله - في الصيام - ويذكر عن أبي خالد (يعني الأحمر) عن الأعمش عن الحكم ومسلم البطين وسلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قالت امرأة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أختي ماتت... " الحديث.

[ ص: 336 ] وهذا الإسناد صحيح، إلا أنه معلل بالاضطراب لكثرة الاختلاف في إسناده ولتفرد أبي خالد بهذه السياقة وقد خالفه فيها من هو أحفظ وأتقن فصار حديثه شاذا للمخالفة [ ص: 337 ] وقد أخرجه مع ذلك ابن خزيمة في صحيحه وأصحاب السنن وأخرجه مسلم في المتابعات ولم يسق لفظه.

ز - ومثال التعليق الممرض الذي يكون إسناده حسنا قوله في الزكاة: ويذكر عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفرق" .

وهذا الحديث وصله هكذا سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه في حديث طويل في الزكاة.

[ ص: 338 ] وقد قدمنا أن رواية سفيان بن حسين عن الزهري ليست على شرط الصحيح؛ لأنه ضعيف فيه وإن كان كل منهما ثقة.

لكن له شاهد من حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وغيره فاعتضد به حديث سفيان بن حسين وصار حسنا.

وقوله في كتاب البيوع: ويذكر عن عثمان رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل" وهذا الحديث رواه أحمد والبزار وابن ماجه من طريق ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن سعيد بن المسيب عن عثمان بن عفان رضي الله [ ص: 339 ] عنه، وابن لهيعة ضعيف، لكنه اعتضد برواية يحيى بن أيوب المصري وهو من رجال البخاري عن عبيد الله بن المغيرة وهو ثقة عن منقذ مولى ابن سراقة وهو مستور ولم يضعفه أحد عن عثمان رضي الله عنه.

كذلك رويناه في فوائد سمويه وفي سنن الدارقطني .

فاعتضد هذا الإسناد بهذا الإسناد فصار حسنا.

ح - ومثال التعليق الممرض الذي يكون إسناده ضعيفا فردا لكنه انجبر بأمر آخر.

قوله في الوصايا: ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية .

[ ص: 340 ] وهذا الحديث رواه الترمذي وغيره من رواية أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي - رضي الله تعالى عنه - ، والحارث ضعيف جدا وقد استغربه الترمذي ثم حكى إجماع أهل العلم على القول بذلك فاعتضد الحديث بالإجماع - والله أعلم - .

(ط) ومثال التعليق الممرض الذي لا يرتقي عن درجة الضعيف ولم ينجبر بأمر آخر، وعقبه البخاري بالتضعيف - قوله في الصلاة:

ويذكر عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - رفعه: "لا يتطوع الإمام في مكانه" . ولم يصح.

وكأنه أشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من طريق ليث بن أبي سليم [ ص: 341 ] عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - نحوه. وليث بن أبي سليم ضعيف، وقد تفرد به، وشيخ شيخه لا يعرف.

وقوله - في كتاب الهدية -: ويذكر عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - مرفوعا. "إن جلساءه شركاؤه ولم يصح"

وهذا الحديث لا يصح رفعه، فقد رويناه في مسند عبد بن حميد وفي كتاب الحلية وغيرها - من طريق مندل بن علي عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أهديت له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها .

[ ص: 342 ] ومندل بن علي ضعيف. والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفا كذلك رويناه في مصنف عبد الرزاق وفي فوائد الحسن بن رشيق من طريقه، عن محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار موقوفا.

وروي عن عبد الرزاق مرفوعا ولم يثبت عنه.

ومحمد بن مسلم الطائفي فيه مقال ولكنه أرجح من مندل .

وقد صحح كونه موقوفا أبو حاتم الرازي فيما ذكره ابنه عنه في العلل فقال: إن رفعه منكر.

فقد لاح بهذه الأمثلة واتضح أن الذي يتقاعد عن شرط البخاري من التعليق الجازم جملة كثيرة، وأن الذي علقه بصيغة التمريض متى أورده في معرض الاحتجاج والاستشهاد فهو صحيح أو حسن أو ضعيف منجبر وإن أورده في معرض الرد فهو ضعيف عنده، وقد بينا أنه يبين كونه ضعيفا - والله الموفق - .

وجميع ما ذكرناه يتعلق بالأحاديث المرفوعة.

[ ص: 343 ] أما الموقوفات فإنه يجزم بما صح منها عنده ولو لم يبلغ شرطه ويمرض ما كان فيه ضعف وانقطاع.

وإذا علق عن شخصين وكان لهما (إسنادان مختلفان) مما يصح أحدهما ويضعف الآخر، فإنه يعبر فيما هذا سبيله بصيغة التمريض - والله أعلم - .

وهذا كله فيما صرح بإضافته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى أصحابه.

أما ما لم يصرح بإضافته إلى قائل؛ وهي الأحاديث التي يوردها في تراجم الأبواب من غير أن يصرح بكونها أحاديث.

فمنها: ما يكون صحيحا وهو الأكثر.

ومنها: ما يكون ضعيفا. كقوله، في باب: اثنان فما فوقهما جماعة، ولكن ليس شيء من ذلك ملتحقا بأقسام التعليق التي قدمناها إذا لم يسقها مساق الأحاديث، وهي قسم مستقل ينبغي الاعتناء بجمعه والكلام عليه وبه وبالتعليق يظهر كثرة ما اشتمل عليه جامع البخاري من الحديث، ويوضح سعة اطلاعه ومعرفته بأحاديث الأحكام جملة وتفصيلا - رحمه الله تعالى - .

[ ص: 344 ] تنبيه:

30 - قول ابن الصلاح ، في هذه المسألة: "وأما الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر... " ففي بعضه نظر.

إنما خص النظر ببعضه؛ لأنه كما أوضحته على قسمين:

أحدهما ما أورده موصولا ومعلقا سواء كان ذلك في موضع واحد أو موضعين فهذا لا نظر فيه؛ لأن الاعتماد على الموصول ويكون المعلق شاهدا له.

وثانيهما: ما لا يوجد في كتابه إلا معلقا فهذا هو موضع النظر، وقد أفردته بتأليف مستقل لطيف الحجم جم الفوائد ولله الحمد.

التالي السابق


الخدمات العلمية