صفحة جزء
ذكر الأمر للمرء بترك صدقة ماله كله والاقتصار على البعض منه إذ هو خير

3370 - أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال : حدثنا محمد بن أبي السري قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الزهري ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه ، قال : لم أتخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها ، حتى كانت غزوة تبوك إلا بدر ، ولم يعاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا تخلف عن بدر ، إنما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد العير ، وخرجت قريش مغيثين لعيرهم ، فالتقوا على غير موعد كما قال الله ، ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس لبدر ، وما أحب أني [ ص: 156 ] كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، ولم أتخلف بعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها ، حتى كانت غزوة تبوك ، وهي آخر غزوة غزاها ، آذن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ الناس ] بالرحيل ، وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم ، وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار ، وكان قلما أراد غزوة إلا ورى غيرها ، وكان يقول : الحرب خدعة ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبته ، وأنا أيسر ما كنت ، قد جمعت راحلتين لي ، فلم أزل كذلك حتى قام النبي - صلى الله عليه وسلم - غاديا بالغداة ، وذلك يوم الخميس - وكان يحب أن يخرج يوم الخميس - فأصبح غاديا ، فقلت : أنطلق إلى السوق وأشتري جهازي ، ثم ألحق بها ، فانطلقت إلى السوق من الغد ، فعسر علي بعض شأني فرجعت ، فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم ، فعسر علي بعض شأني أيضا ، فلم أزل كذلك حتى لبس بي الذنب ، وتخلفت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلت أمشي في الأسواق وأطراف المدينة فيحزنني أن لا أرى أحدا تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا [ ص: 157 ] رجلا مغموصا عليه في النفاق ، وكان ليس أحد تخلف إلا أرى ذلك سيخفى له ، وكان الناس كثيرا لا يجمعهم ديوان ، وكان جميع من تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بضعة وثمانين رجلا .

ولم يذكرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوكا ، فلما بلغ تبوكا ، قال : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من قومي : خلفه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه ، فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يا نبي الله ما نعلم إلا خيرا ، قال : فبينا هم كذلك إذا رجل يزول به السراب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كن أبا خيثمة " ، فإذا هو أبو خيثمة ، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك ، [ ص: 158 ] وقفل ودنا من المدينة جعلت أتذكر ماذا أخرج به من سخط النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهل بيتي ، حتى إذا قيل : النبي - صلى الله عليه وسلم - مصبحكم بالغداة ، راح عني الباطل ، وعرفت أني لا أنجو إلا بالصدق ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى ، فصلى في المسجد ركعتين ، وكان إذا قدم من سفر فعل ذلك : دخل المسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم جلس فجعل يأتيه من تخلف ، فيحلفون له ويعتذرون إليه ، فيستغفر لهم ويقبل علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله ، فدخلت المسجد ، فإذا هو جالس ، فلما رآني تبسم تبسم المغضب ، فجئت فجلست بين يديه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألم تكن ابتعت ظهرا ؟ قلت : بلى يا نبي الله ، فقال : ما خلفك عني ؟ فقلت : والله لو بين يدي أحد من الناس غيرك جلست لخرجت من سخطه علي بعذر ، ولقد أوتيت جدلا ولكني قد علمت - يا نبي الله - أني إن حدثتك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حق ، فإني أرجو فيه عقبى الله ، وإن حدثتك اليوم بحديث ترضى عني فيه وهو كذب أوشك أن يطلعك الله علي ، والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ، ولا أخف حاذا مني ، حيث تخلفت عليك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أما هذا فقد صدقكم الحديث ، قم حتى يقضي الله فيك .

فقمت فثار على أثري ناس من قومي يؤنبونني ، فقالوا : والله ما نعلمك أذنبت ذنبا قط قبل هذا ، فهلا اعتذرت إلى [ ص: 159 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعذر يرضاه عنك فيه ، وكان استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيأتي من وراء ذلك ، ولم تقف موقفا لا ندري ماذا يقضى لك فيه ، فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ، فقلت : هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا : نعم ، قاله هلال بن أمية ومرارة بن ربيعة ، فذكروا رجلين صالحين شهدا بدرا لي فيهما أسوة ، فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبدا ، ولا أكذب نفسي.

[ ص: 160 ] ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة ، فجعلت أخرج إلى السوق ولا يكلمني أحد ، وتنكر لنا الناس ، حتى ما هم بالذين نعرف ، وتنكر لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف ، وتنكرت لنا الأرض حتى ما هي بالأرض التي نعرف ، وكنت أقوى أصحابي ، فكنت أخرج فأطوف في الأسواق فآتي المسجد ، وآتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه ، وأقول : هل حرك شفتيه بالسلام ، فإذا قمت أصلي إلى سارية ، وأقبلت على صلاتي ، نظر إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمؤخر عينيه ، وإذا نظرت إليه أعرض عني ، واشتكى صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار ، ولا يطلعان رؤوسهما .

قال : فبينا أنا أطوف في الأسواق إذا رجل نصراني قد جاء بطعام له يبيعه ، يقول : من يدل على كعب بن مالك ، فطفق الناس يشيرون له إلي ، فأتاني بصحيفة من ملك غسان ، فإذا فيها : أما بعد ، فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ولست بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . فقلت : هذا أيضا من البلاء ، فسجرت لها التنور ، فأحرقتها فيه.

[ ص: 161 ] فلما مضت أربعون ليلة إذا رسول من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أتاني ، فقال : اعتزل امرأتك ، فقلت : أطلقها ؟ قال : لا ، ولكن لا تقربها ، فجاءت امرأة هلال بن أمية ، فقالت : يا نبي الله ، إن هلال بن أمية شيخ ضعيف ، فهل تأذن لي أن أخدمه ، قال : نعم ، ولكن لا يقربنك . قالت : يا نبي الله ، ما به حركة لشيء ، ما زال متكئا يبكي الليل والنهار مذ كان من أمره ما كان.

قال كعب : فلما طال علي البلاء ، اقتحمت على أبي قتادة حائطه - وهو ابن عمي - فسلمت عليه فلم يرد ، فقلت : أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت ، فقلت : أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟ فسكت ، فقلت : أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله ، فقال : الله ورسوله أعلم . قال : فلم أملك نفسي أن بكيت ثم اقتحمت الحائط خارجا ، حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا ، صليت على ظهر بيت لنا [ ص: 162 ] صلاة الفجر ، وأنا في المنزلة التي قال الله : قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت علينا أنفسنا ، إذ سمعت نداء من ذروة سلع أن أبشر يا كعب بن مالك ، فخررت ساجدا ، وعرفت أن الله قد جاءنا بالفرج ، ثم جاء رجل يركض على فرس يبشرني ، فكان الصوت أسرع من فرسه ، فأعطيته ثوبي بشارة ، ولبست ثوبين آخرين.

وكانت توبتنا نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلث الليل ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله ألا نبشر كعب بن مالك ، فقال : "إذا يحطمكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليلة" .

قال : وكانت أم سلمة محسنة في شأني تخبرني بأمري ، فانطلقت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون ، وهو يستنير كاستنار القمر ، وكان إذا سر بالأمر استنار ، فجئت فجلست بين يديه ، فقال : يا كعب بن مالك ، أبشر بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك ، قال : فقلت : يا نبي الله ، أمن عند الله أم من عندك ؟ قال : بل من عند الله ، ثم تلا عليهم :
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار حتى بلغ هو التواب الرحيم قال : وفينا نزلت اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال : فقلت : [ ص: 163 ] يا نبي الله ، إن من توبتي أني لا أحدث إلا صدقا ، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " أمسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك " ، قال : فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر ، قال : فما أنعم الله علي من نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صدقته أنا وصاحباي أن لا نكون كذبنا ، فهلكنا كما هلكوا ، وما تعمدت لكذبة بعد ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي
.

قال الزهري : فهذا ما انتهى إلينا من حديث كعب بن مالك .

التالي السابق


الخدمات العلمية