صفحة جزء
ذكر الزجر عن أن يرغب المرء عن آبائه

إذ استعمال ذلك ضرب من الكفر

413 - أخبرنا أبو يعلى قال : حدثنا سريج بن يونس قال : حدثنا هشيم ، قال : سمعت الزهري يحدث عن عبيد الله بن عبد الله ، قال :

[ ص: 146 ] حدثني ابن عباس ، قال : انقلب عبد الرحمن بن عوف إلى منزله بمنى ، في آخر حجة حجها عمر بن الخطاب ، فقال : إن فلانا يقول : لو قد مات عمر بايعت فلانا .

قال عمر : إني قائم العشية في الناس ، وأحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم .

قال عبد الرحمن : فقلت : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس ، وغوغاءهم ، وإن أولئك الذين يغلبون على مجلسك إذا أقمت في الناس ، فيطيروا بمقالتك ، ولا يضعوها مواضعها . أمهل حتى تقدم المدينة ، فإنها دار الهجرة ، فتخلص بعلماء الناس وأشرافهم ، وتقول ما قلت متمكنا ، ويعون مقالتك ، ويضعونها مواضعها .

فقال عمر : لئن قدمت المدينة سالما - إن شاء الله - لأتكلمن في أول مقام أقومه .

فقدم المدينة في عقب ذي الحجة . فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح في شدة الحر ، فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني ، فجلس إلى ركن المنبر الأيمن ، وجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن طلع عمر ، فقلت لسعيد : أما إنه سيقول اليوم على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف . قال : وما عسى أن يقول ؟

فجلس عمر على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : [ ص: 147 ] أما بعد

فإني قائل لكم مقالة قدر لي أن أقولها ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها ، فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن لم يعقلها ، فلا يحل لمسلم أن يكذب علي : إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأ بها ، ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده ، وأخاف إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم حق على من زنى من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو كان حمل ، أو اعتراف ، وايم الله ، لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله ، لكتبتها .

ألا وإنا كنا نقرأ " لا ترغبوا عن آبائكم ، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم " ، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله .

[ ص: 148 ] ألا وإنه بلغني أن فلانا ، قال : لو قد مات عمر ، بايعت فلانا ، فمن بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين ، فإنه لا بيعة له ، ولا للذي بايعه ، فلا يغترن أحد فيقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، ألا وإنها كانت فلتة ، إلا أن الله وقى شرها ، وليس منكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ألا وإنه كان من خيرنا يوم توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم .

إن المهاجرين اجتمعوا إلى أبي بكر ، وتخلف عنا الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار ننظر ما صنعوا ، فخرجنا نؤمهم ، فلقينا رجلان صالحان منهم ، فقالا : أين تذهبون يا معشر المهاجرين ؟ فقلت : نريد إخواننا من الأنصار ، قال : فلا عليكم أن لا تأتوهم ، اقضوا [ ص: 149 ] أمركم ، يا معشر المهاجرين . فقلت : والله لا نرجع حتى نأتيهم ، فجئناهم ، فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة ، وإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : سعد بن عبادة ، قلت : ما له ؟ قالوا : وجع ، فلما جلسنا قام خطيبهم فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وقد دفت إلينا - يا معشر المسلمين - منكم دافة ، وإذا هم قد أرادوا أن يختصوا بالأمر ، ويخرجونا من أصلنا .

قال عمر : فلما سكت ، أردت أن أتكلم ، وقد كنت زورت مقالة قد أعجبتني أريد أن أقولها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحد ، وكان أحلم مني وأوقر ، فأخذ بيدي وقال : اجلس ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم ، فوالله ما ترك مما زورته في مقالتي إلا قال مثله في بديهته أو أفضل ، [ ص: 150 ] فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فما ذكرتم من خير ، فأنتم أهله ، ولن يعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب دارا ونسبا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا ، فلم أكره شيئا من مقالته غيرها ، كان والله لأن أقدم فتضرب عنقي في أمر لا يقربني ذلك إلى إثم ، أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر ، فقال فتى الأنصار : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، فكثر اللغط ، وخشيت الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسطها ، فبايعته ، وبايعه المهاجرون والأنصار ، ونزونا على سعد ، فقال قائل : قتلتم سعدا . فقلت : قتل الله سعدا . فلم نجد شيئا [ ص: 151 ] هو أفضل من مبايعة أبي بكر ، خشيت إن فارقنا القوم أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى ، وإما أن نخالفهم ، فيكون فسادا واختلافا ، فبايعنا أبا بكر جميعا ، ورضينا به
.

[ ص: 152 ] قال أبو حاتم : قول عمر : " قتل الله سعدا " ، يريد به في سبيل الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية