المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
(3) باب

النهي عن أن يحدث محدث بكل ما سمع

[ 4 ] عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع .

قلت : أكثر الناس يرسله عن حفص : لا يذكر أبا هريرة ، فأسنده الرازي وحده وهو ثقة .

وقال عمر بن الخطاب ، وابن مسعود : بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع .

وقال مالك : اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع ، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع .

- وعن سفيان بن حسين ، قال : سألني إياس بن معاوية ، قال : إني أراك قد كلفت بعلم القرآن ، فاقرأ علي سورة وفسر حتى أنظر فيما علمت ، قال : ففعلت ، فقال لي : احفظ علي ما أقول لك : إياك والشناعة في الحديث ! فإنه قلما حملها أحد إلا ذل [في] نفسه ، وكذب في حديثه .

- وعن عبد الله بن مسعود ; أنه قال : ما أنت بمحدث قوما حديثا [لا] تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة .

رواه مسلم ( 5 ) ، وأبو داود ( 4992 ) .

ومعنى " بحسب المرء " : يكفيه ذلك من الكذب


[ ص: 116 ] (3) ومن باب النهي عن أن يحدث محدث بكل ما سمع .

(قوله عليه الصلاة والسلام : " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ") : هذا الحديث رواه مسلم في كتابه من طريقين :

أحدهما : طريق عبد الرحمن بن مهدي ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كفى بالمرء كذبا . " الحديث مرسلا عن حفص ، ولم يذكر أبا هريرة ; هكذا وقع عند كافة رواة كتاب مسلم ، ووقع عند أبي العباس الرازي - وحده - في هذا الإسناد : عن أبي هريرة ، فأسنده .

ثم أردف مسلم الطريق الآخر : عن علي بن حفص المدائني ، عن شعبة ، عن خبيب ، عن حفص ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، قال علي بن عمر الدارقطني : والصواب المرسل .

[ ص: 117 ] والباء في " بالمرء " : زائدة هنا على المفعول ، وفاعل " كفى " : أن يحدث ، وقد ترد هذه الباء على فاعل كفى ; كقوله تعالى : وكفى بالله شهيدا [ النساء : 79 ] وكذبا وشهيدا : منصوبان على التمييز .

ومعنى الحديث : أن من حدث بكل ما سمع ، حصل له الحظ الكافي من الكذب ; فإن الإنسان يسمع الغث والسمين ، والصحيح والسقيم ، فإذا حدث بكل ذلك ، حدث بالسقيم وبالكذب ، ثم يحمل عنه ، فيكذب في نفسه أو يكذب بسببه .

ولهذا أشار مالك بقوله : ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع ، ولا يكون إماما أبدا ، أي إذا وجد الكذب في روايته ، لم يوثق بحديثه ، وكان ذلك جرحه فيه ; فلا يصلح ليقتدي به أحد ولو كان عالما ، فلو بين الصحيح من السقيم ، والصادق من الكاذب سلم من ذلك ، وتقصى عن عهدة ما يجب عليه من النصيحة الدينية .

و (قوله : " إني أراك قد كلفت بعلم القرآن ") هو بكسر اللام من الكلف بالشيء ، وهو الولوع به ، والمحبة له ، والاعتناء به ; وهكذا صحت روايتنا فيه ، وقد روي من طريق الطبري : علقت ، وهو من العلاقة ، وهي المحبة .

والشناعة في الحديث : هو ما يستقبح ، ويستنكر ; يقال : شنعت بالشيء ، أي : أنكرته ، بكسر النون ، وشنع الشيء بضمها : قبح في نفسه ، وشنعت على الرجل مشددا : إذا ذكرت عنه قبيحا ; حذره بهذا القول عن أن يحدث الأحاديث المنكرة ، فيكذب ويزل .

[ ص: 118 ] و (قوله : " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة ") أي : حديثا لا يفهمونه ولا يدركون معناه .

والفتنة هنا : الضلال والحيرة ، وهي تتصرف في القرآن على أوجه متعددة ، وأصلها : الامتحان والاختبار ; ومنه قولهم : فتنت الذهب بالنار : إذا اختبرته بها ، وهذا نحو مما قال في حديث آخر : " حدثوا الناس بما يفهمون ; أتريدون أن يكذب الله ورسوله " ؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية