المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1104 [ 566 ] وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله تبارك وتعالى يقول : وأقم الصلاة لذكري [ طه :14 ]

رواه أحمد (3 \ 184)، والبخاري (597)، ومسلم (684) (316)، وأبو داود (442)، والترمذي (178)، والنسائي (2 \ 293 - 294) .


[ ص: 306 ] (87) ومن باب : من نام عن صلاة أو نسيها

قوله " حين قفل من غزوة خيبر " ; أي رجع ، قال الأصيلي : خيبر غلط ، وإنما هو حنين ، ولم يعتر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة واحدة حين قفل من حنين إلى مكة . وقال الباجي وابن عبد البر : قول ابن شهاب " من خيبر " أصح ، وهو قول أهل السير . وفي حديث ابن مسعود أن نومه ذلك كان عام الحديبية ، وذلك في زمن خيبر ، وعليه يدل حديث أبي قتادة . قال غيره : وذلك بطريق مكة ، وهو طريق لمكة لمن شاء . قال أبو عمر : في هذه الأحاديث ما يدل على أن نومه كان مرة واحدة ، ويحتمل أن يكون مرتين . قال عياض : أما حديث أبي قتادة فلا مرية أنه غير حديث أبي هريرة ، وكذلك حديث عمران بن حصين .

والكرى النوم ، وعرس نزل آخر الليل - قاله الخليل ، وقال أبو زيد : التعريس النزول أي وقت كان من ليل أو نهار . وفي الحديث : يعرسون في نحر الظهيرة . و " اكلأ " أي احفظ ، ومنه كلأك الله أي حفظك ، وهذا إنما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن طلبوا ذلك منه ، كما قال البخاري : إنهم طلبوا التعريس منه فقال : أخاف أن تناموا ! [ ص: 307 ] فقال بلال : أنا أوقظكم . فحينئذ عرس بهم ، ووكل بلالا بحفظ الفجر .

وقوله " ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم " اختلف في هذا الفزع وفي سببه ; فقال الأصيلي : كان لأجل عدوهم أن يكون اتبعهم فيجدهم على غرة . وقال غيره : لما فاتهم من أمر الصلاة ولم يكن عندهم حكم من ذلك . وقد دل على هذا قولهم : ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا ؟ وهذا بين في حقهم . وقد يكون الفزع بمعنى مبادرتهم إلى الصلاة ، كما قال " فافزعوا إلى الصلاة " ; أي : بادروا إليها . وقد يكون فزع النبي - صلى الله عليه وسلم - إجابة الفزعين من أصحابه وإغاثتهم لما نزل بهم ، يقال فزعت استغثت ، وفزعت أغثت .

وقوله " أي بلال ! " ، كذا عند أكثر الرواة بـ " أي " التي للنداء ، وعند العذري والسمرقندي " أين بلال ؟ " بأين الظرفية .

وقول بلال " أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك " على طريق العذر مما كان تكفل به كما قدمناه من رواية البخاري ، والنفس هنا هي التي تتوفى بالنوم وبالموت ، كما قال تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ الزمر : 42 ] وهي التي تخرج من البدن حالة الموت ، كما قال تعالى : أخرجوا أنفسكم [ الأنعام :93 ] وهي المناداة بقوله : يا أيتها النفس المطمئنة إلى قوله : فادخلي في عبادي [ الفجر : 27 - 29 ] وقد عبر عنها في الموطأ في هذا الحديث بالروح فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قبض أرواحنا ، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا . فما سماه بلال نفسا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم روحا ، فهما إذن عبارتان عن معبر واحد ، وهذا مذهب أئمتنا .

وقد اختلف الناس قديما وحديثا في ما هو هذا المعنى المعبر عنه بالنفس [ ص: 308 ] والروح ، والذي يفهم من مجموع ما في الكتاب والسنة وأقاويل علمائنا أن ذلك هو لطيفة مودعة في الأجساد مشاركة لجميع أجزائها التي تحلها الحياة ، يتأتى إخراجها من الجسد وإدخالها فيه وقبضها منه ، أجرى الله العادة بخلق الحياة في الجسد ما دامت فيه تلك اللطيفة ، وهي القابلة للعلوم . والإنسان : هو الجسد وتلك اللطيفة .

وقد فرق الصوفية بين النفس والروح ، فقالوا : النفس لطيفة مودعة في الجسم محل للأخلاق المعلولة ، والروح محل للأخلاق المحمودة ، وهو اصطلاح من قبلهم ، ولا مشاحة في الاصطلاحات بعد فهم المعنى .

والنفس في اللغة مشترك يطلق على ما ذكرناه ، ويطلق ويراد به وجود الشيء وذاته ، ويطلق ويراد به الدم . والروح يطلق على ما ذكر ، وعلى جبريل إذ قد سماه الله تعالى روحا في قوله : نـزل به الروح الأمين [ الشعراء :193 ] ويحتمل أن يكون المراد بقوله في قوله تعالى : تنـزل الملائكة والروح [ القدر :4 ] وفي قوله : قل الروح من أمر ربي [ الإسراء :85 ] - على ما قاله ابن عباس في قوله " قل الروح " ، وقد تقدم أن الروح مشتق من الريح .

وقوله " قال : اقتادوا ! فاقتادوا رواحلهم شيئا " ، قال : استدل به بعض الحنفيين على أن الفرائض لا تقضى في هذا الوقت بهذا الحديث ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما ارتحل عن ذلك الموضع ليخرج الوقت المنهي عنه ، وهذا تحكم ، بل كما يحتمل ما ذكروه يحتمل أنه إنما كان ذلك ليعم النشاط جميعهم ، وأبين من ذلك كله ما قد نص عليه من كراهية ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم " ليأخذ كل رجل برأس راحلته ، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان " ، وقد زاد أبو داود في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة .

[ ص: 309 ] وقوله “ فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بلالا فأقام الصلاة " ، ولم يذكر الأذان ، وقد ذكره في حديث أبي قتادة ، فاختلف العلماء في الفوائت ; هل يؤذن لها ويقام ؟ أو لا يؤذن لها ولا يقام ؟ أو يقام لها ولا يؤذن ؟ ثلاثة أقوال ، فالأول مذهب أهل الرأي وأحمد وأبي ثور ، والثاني مذهب الثوري ، والثالث مذهب مالك والأوزاعي ، والقول الثاني للشافعي . وقد تأول بعض أصحابنا الأذان في حديث أبي قتادة بمعنى الإعلام ، وهو تكلف ، بل الذي يجمع بين الأحاديث أنه إن احتيج إلى الأذان بحيث يجمع متفرقهم فعل ، وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة ، وإن كانوا مجموعين لم يحتج لذلك ; إذ ليس وقتا راتبا فيدعى إليه الجميع ويعلمونه ويكون شعارا ، وقد قدمنا أن هذه فوائد الأذان ، وعلى هذا يحمل حديث أبي قتادة ، والله أعلم .

وقوله " فصلى بهم الصبح " حجة الجميع في الفوائت .

وقوله " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " - وفي لفظ آخر " أو غفل عنها " ، كل ذلك دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل ، كثرت الصلوات أو قلت ، وهذا مذهب عامة العلماء . وقد حكي خلاف شاذ عن بعض الناس فيمن زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء ، وهو خلاف لا يعبأ به لأنه مخالف لنص الحديث .

وأما من ترك الصلاة عامدا فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه ، وفيه خلاف شاذ أيضا عن داود وأبي عبد الرحمن الأشعري ، وقد احتج الجمهور عليهم بأوجه ;

أحدها : أنه قد ثبت الأمر بقضاء الناسي والنائم مع أنهما غير مؤثمين ، فالعامد أولى .

[ ص: 310 ] وثانيها : التمسك بقوله " إذا ذكرها " ، والعامد ذاكر لتركها فلزمه قضاؤها .

وثالثها : التمسك بعموم قوله " من نسي صلاة " ; أي : من حصل منه نسيان ، والنسيان هو الترك سواء كان مع ذهول أو لم يكن ، وقد دل على هذا قوله تعالى : نسوا الله فنسيهم [ التوبة : 67 ] ; أي : تركوا معرفة الله وأمره فتركهم في العذاب .

ورابعها : التمسك بقوله " من نسي صلاة فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها " ، والكفارة إنما تكون عن الذنوب غالبا ، والنائم والناسي بمعنى الذاهل ليس بآثم ، فتعين العامد لأن يكون هو المراد بلفظ الناسي .

وخامسها : قوله وأقم الصلاة لذكري [ طه :14 ] ; أي : لتذكرني فيها - على أحد التأويلات .

وسادسها : أن القضاء يجب بالخطاب الأول ; لأن خروج وقت العبادة لا يسقط وجوبها ، لأنها لازمة في ذمة المكلف كالديون ، وإنما يسقط العبادة فعلها أو فقد شرطها ، ولم يحصل شيء من ذلك ، وهذا أحد القولين لأئمتنا الأصوليين والفقهاء .

وفي قوله " إذا ذكرها " حجة للجمهور على أبي حنيفة حيث يقول : إن المتروكة لا تقضى بعد الصبح ولا بعد العصر . ووجه تمسكهم أنها صلاة تجب بسبب ذكرها ، فتفعل عند حضور سببها متى ما حضر ، وقد صرح بالتعليل في قوله تعالى : وأقم الصلاة لذكري [ طه :14 ] ; فإن اللام للتعليل ظاهرا ، ولا يعارض هذا بقوله صلى الله عليه وسلم : لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ; فإن هذا عام في جنس الصلوات ، وذلك خاص في الواجبات المقضية . والوجه الصحيح عند الأصوليين بناء العام على الخاص ; إذ ذلك يرفع التعارض وبه يمكن الجمع ، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين .

[ ص: 311 ] واستدلاله - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى وأقم الصلاة لذكري دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ، وهو قول أكثر أصحابنا . واختلف أهل التفسير في قوله تعالى " لذكري " ; فقال مجاهد : لتذكرني فيها . وقال النخعي : اللام للظرف ; أي : إذا ذكرتني ، أي ذكرت أمري بعدما نسيت ، ومنه الحديث . وقيل : لا تذكر فيها غيري . وقيل : شكرا لذكري . وقيل ما ذكرناه من أن اللام للتسبيب ، وهو أوضحها . ويقرب منه قول النخعي . وقراءة ابن شهاب تأنيث للذكر .

وقوله " ثم سجد سجدتين ، ثم صلى الغداة " ، وفي حديث أبي قتادة " فصلى ركعتين " ، وبهذه الزيادة قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وداود ، وهو قول أشهب وعلي بن زياد من أصحابنا . ومشهور مذهب مالك أنه يصليها قبل الصبح الفائتة ، وهو قول الثوري والليث تمسكا بحديث ابن شهاب ، وليس فيه من ذلك شيء ، ولأن فعلها قبل الفائتة يزيد الفائتة فواتا . وقال أصحابنا : إن النوافل لا تقضى ; إذ ليس في الذمة شيء فيجب قضاؤه ، فإن أراد أن يقضي فليصل نفلا مبتدأ ، والله أعلم .

وقوله " وليأخذ كل رجل برأس راحلته ; فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان " ، ذهب بعض العلماء إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث ، فقال : إن من انتبه من نوم عن صلاة فائتة في سفر زال عن موضعه ، وإن كان واديا خرج عنه . واعتضد بقوله صلى الله عليه وسلم " تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة " ، وهذه الزيادة ذكرها [ ص: 312 ] أبو داود في حديث أبي هريرة . وقال آخرون : إنما يلزم هذا في ذلك الوادي بعينه ; إن علم ونزلت فيه مثل تلك النازلة فيجب الخروج منه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الجمهور : إن هذا غير مراعى ، وإن من استيقظ عن صلاة فاتته صلاها في ذلك الوقت وحيثما كان ; لقوله صلى الله عليه وسلم " فحيثما أدركتك الصلاة فصل " ، وهذا الحديث لا يصلح لتخصيصه في غير حق النبي صلى الله عليه وسلم ; إذ لا يعلم غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من حال ذلك الوادي ولا من غيره من المواضع ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وبتقدير أن تقع النازلة في ذلك الوادي فلا ندري هل ذلك الشيطان باق فيه أم لا ؟

وقوله " تحولوا " خطاب لأصحابه الكائنين معه خاصة لا يتعدى إلى غيرهم ; لأنه كان لسبب علمه - صلى الله عليه وسلم - بحضور الشيطان فيه ، وغيره لا يعلم ذلك فلا يتعدى إليه ذلك الحكم ، والله تعالى أعلم .

وإلى معنى ما ذكرناه ذهب الداودي وغيره من أصحابنا في تأويل الحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية