المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1099 (88) باب

من نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فله أن يؤذن إذا كان في جماعة ، ويصلي ركعتي الفجر

[ 567 ] عن أبي قتادة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم ، وتأتون الماء - إن شاء الله - غدا . فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد ، قال أبو قتادة : فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حتى ابهار الليل وأنا إلى جنبه . قال : فنعس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمال عن راحلته ، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه ، حتى اعتدل على راحلته . قال : ثم سار حتى تهور الليل ، مال عن راحلته . قال : فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته . قال : ثم سار ، حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأوليين ، حتى كاد ينجفل ، فأتيته فدعمته ، ثم رفع رأسه فقال : من هذا ؟ قلت : أبو قتادة . قال : متى كان هذا مسيرك مني ؟ قلت : ما زال هذا مسيري منذ الليلة . ثم قال : حفظك الله بما حفظت به نبيه ! ثم قال : هل ترانا نخفى على الناس ؟ ثم قال : هل ترى من أحد ؟ قلت : هذا راكب . ثم قلت : هذا راكب آخر ، حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب . قال : فمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطريق فوضع رأسه ثم قال : احفظوا علينا صلاتنا ! فكان أول من استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشمس في ظهره ، قال : فقمنا فزعين ، ثم قال : اركبوا ! فركبنا فسرنا ، حتى إذا ارتفعت الشمس نزل ، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء ، فتوضأ منها وضوءا دون وضوء ، قال : وبقي فيها شيء من ماء ، ثم قال لأبي قتادة : احفظ علينا ميضأتك ، فسيكون لها نبأ ! ثم أذن بلال بالصلاة ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ، ثم صلى الغداة ، فصنع كما كان يصنع كل يوم . قال : وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركبنا معه ، قال : فجعل بعضنا يهمس إلى بعض : ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا ؟ ثم قال : أما لكم في أسوة ؟ ثم قال : أما إنه ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى ، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها ، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها . ثم قال : ما ترون الناس صنعوا ؟ قال : ثم قال : أصبح الناس فقدوا نبيهم ، فقال أبو بكر وعمر : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدكم ، لم يكن ليخلفكم ! وقال الناس : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أيديكم ، فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا . قال : فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء ، وهم يقولون : يا رسول الله ، هلكنا ، عطشنا . فقال : لا هلك عليكم ! ثم قال : أطلقوا لي غمري ! قال : ودعا بالميضأة ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصب وأبو قتادة يسقيهم ، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسنوا الملأ ، فكلكم سيروى . قال : ففعلوا ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصب وأسقيهم ، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ثم صب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : اشرب ! فقلت : لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله ! قال : إن ساقي القوم آخرهم . قال : فشربت ، وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأتى الناس الماء جامين رواء .

رواه أحمد (5 \ 298)، ومسلم (681)، وأبو داود (5228)، وابن ماجه (3434) .


[ ص: 313 ] (88) ومن باب : شرح ما تضمنه حديث أبي قتادة وعمران بن الحصين من الغريب

قوله " لا يلوي أحد على أحد " ; أي لا يعطف عليه ولا ينتظره ، وأصله من لي العنق .

وقوله " حتى ابهار الليل " ; أي انتصف ، وبهرة كل شيء وسطه ، وقيل : ذهب عامته وبقي نحو من ثلثه . قال أبو سعيد الضرير : ابهرار الليل طلوع نجومه إذا تتامت . وقال غيره : ابهار الليل طال . والباهر : الممتلئ نورا . وقد صحفه بعض الشارحين تصحيفا قبيحا فقال : انهار الليل - بالنون ، وقال : ومنه قوله تعالى : فانهار به في نار جهنم [ التوبة :109 ]

[ ص: 314 ] وقوله “ وتهور الليل " ، قال الهروي : معناه ذهب أكثره وانهدم كما يتهور البناء ، يقال : تهور الليل وتوهر .

وقوله " فدعمته " ; أي أقمت ميله وصرت له كالدعامة تحته .

وقوله " حتى كاد ينجفل " ; أي قارب أن ينقلب ويقع ، ومنه ما جاء في الحديث " أن البحر جفل سمكا " ; أي ألقاه فرمى به - ذكره الهروي .

وقوله " فمال عن الطريق فوضع رأسه " ، هذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - مثل قوله " إذا عرستم فاجتنبوا الطريق ، فإنه مأوى الهوام " .

[ ص: 315 ] والميضأة : الإناء الذي يتوضأ فيه ، وهي التي قال فيها : أطلقوا لي غمري . والغمر : القعب الصغير . ويقال : تغمرت ; أي : شربت قليلا ، قال أعشى باهلة :


يكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر



وقوله " فتوضأ منها وضوءا دون وضوء " ; يعني وضوءا مخففا ، وكأنه اقتصر فيه على المرة الواحدة ، ولم يكثر صب الماء لأنه أراد أن يفضل منه فضلة لتظهر فيها بركته وكرامته ، وهذا أولى من قول من قال أراد بقوله " وضوءا دون وضوء " الاستجمار بالحجارة ; لأن ذلك لا يقال عليه وضوء عرفا ولا لغة ، لأنه لا نظافة فيه بالغة ، ولما روى أبو داود في هذه القصة من حديث ذي مخبر الحبشي خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءا لم يبتل منه التراب . والأسوة : القدوة .

وقوله " فجعل بعضنا يهمس إلى بعض " ; أي : يحرك شفتيه بكلام خفي .

[ ص: 316 ] وقوله “ إنه ليس في النوم تفريط " يدل على أن النائم غير مكلف ولا مؤاخذ .

وقوله " إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى " ; أي : من لم يصلها عامدا لتركها . وفيه ما يدل على أن أوقات الصلوات كلها موسعة .

وقوله " فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها " ، الإشارة بـ " ذلك " إلى ما وقع له من النوم عن الصلاة ، ويحتمل أن يعود الضمير إلى جميع ما ذكر من النوم والتفريط على ما قررنا في قضاء العامد .

وقوله " فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها " ، قال قوم : ظاهره إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وعند حضور مثلها من الوقت الآتي ، وقد وافق هذا الظاهر ما رواه أبو داود نصا من حديث عمران بن حصين - وذكر القصة ، وقال في آخرها : فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها . قال الخطابي : لا أعلم أحدا قال هذا وجوبا ، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابا ليحرز فضيلة الوقت في القضاء .

قلت : وهذا كله يعارضه ما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة من حديث الحسن عن عمران بن حصين في هذه القصة أنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بهم المقضية قالوا : ألا نقضيها لوقتها من الغد ؟ فقال : لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم . والصحيح ترك العمل بذلك الظاهر لهذه المعارضة ، ولما حكى الخطابي ، ولأن الطرق الصحاح المشهورة ليس فيها من تلك الزيادة شيء إلا [ ص: 317 ] ما ذكر في حديث أبي قتادة ، وهو محتمل كما قررناه ، والله تعالى أعلم .

وقوله " ثم قال : ما ترون الناس صنعوا ؟ " ، هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن كان معه مستفهما على جهة استحضار أفهامهم ، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - مخبرا بما صنعوا وبما قالوا إلى قوله " وقال الناس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديكم " ، وهنا انتهى الخبر عنهم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " ; لأنهما وافقا الحق فيما قالاه ، فصوابه إذا أن يكون " يطيعوا ، ويرشدوا " بياء الغائبين ، وقد قيل في بعض النسخ بتاء المخاطبين ، ووجهه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه أقبل على الغائبين فخاطبهم .

ويجري هذا مجرى قول عمر " الجبل يا سارية " وهو بالمدينة ، وسارية بمصر أو بالشام ، فسمعه سارية ولجأ إلى الجبل ونجا هو وأصحابه ، والله أعلم .

ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حاكيا قولهم .

وقوله " وأحسنوا الملأ " بفتح الميم والهمزة مقصورا ; أي الخلق - قاله [ ص: 318 ] جماعة من اللغويين : أبو زيد ، والمفضل ، والزجاج ، وابن السكيت ، وابن قتيبة - وأنشد بعضهم :


تنادوا يا لبهثة إذ رأونا     فقلنا أحسني ملأ جهينا



أي خلقا ، وروى ابن قتيبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه حين زجروا الأعرابي البائل في المسجد " أحسنوا ملأكم " ; أي خلقكم ، ومن روى هذا الحرف " ملأكم " ساكنة اللام مهموزة من معنى الامتلاء فقد أخطأ ; لأنه لم يملأ أحد في هذه النازلة قربة ولا وعاء ، وإنما كان شربا .

وقوله " فأتى الناس الماء جامين رواء " ; أي نشاطا صالحي الأحوال ، و " رواء " من الري وهو الامتلاء من الماء .

وفي حديث أبي قتادة أوجه من الفقه لا تخفى على متأمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية