المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1107 (89) باب

ما جاء في حكم قصر الصلاة في السفر

[ 568 م ] - عن عروة ، عن عائشة قالت : فرض الله الصلاة - حين فرضها - ركعتين ، ثم أتمها في الحضر ، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى .

قال الزهري : فقلت لعروة : ما بال عائشة تتم في السفر ؟ قال : إنها تأولت ما تأول عثمان .

رواه أحمد (6 \ 234 و 241)، والبخاري (350)، ومسلم (685) (1 و 3)، وأبو داود (1198)، والنسائي (1 \ 225) .


[ ص: 323 ] (89) ومن باب : حكم قصر الصلاة في السفر

قول عائشة رضي الله عنها " فرض الله الصلاة - حين فرضها - ركعتين ركعتين . . . " ، الحديث مخالف لفعلها ; فإنها كانت تتم في السفر ، ومخالف لما قاله غيرها من الصحابة رضي الله عنهم كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم ; فإنهم قالوا : إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين - كما رواه مسلم عن ابن عباس . ويخالف أيضا ظاهر الكتاب في قوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ النساء :101 ] مع قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ، كما يأتي في حديث يعلى . وقد رام بعض المتأخرين الجمع بين حديث عائشة وبين حديث [ ص: 324 ] ابن عباس فقال : يحمل حديث عائشة على أول الأمر ، وحديث ابن عباس على الذي استقر عليه الفرضان ، وهو تحكم ، مع أنه بقي عليه العذر عن مخالفتها هي وعن معارضة ظاهر الكتاب .

ثم نقول : لو كان الأمر على ما ذكرته عائشة لاستحال عادة أن تنفرد بنقل ذلك عائشة ، فإنه حكم يعم الناس كلهم فيشيع ، وتنقله الكافة من الصحابة والعدد الكثير منهم ، ولم يسمع ذلك قط من غيرها من الصحابة فلا معول عليه ، والله أعلم .

فإن قيل : فلعل ذلك كان في أول مشروعية الصلاة ولم يستمر ذلك الحكم ، فلا يلزم الإشاعة ! قلنا : ذلك باطل ; لأن عائشة رضي الله عنها لعلها لم تكن موجودة في ذلك الوقت ، فإن أول مشروعية الصلاة إنما كانت حين الإسراء ، وقد ذكرنا وقت ذلك في كتاب الإيمان ، وإن كانت موجودة إذ ذاك فلم تكن ممن يميز ولا يعقل لصغرها .

واختلف في حكم القصر في السفر ; فروي عن جماعة أنه فرض ، وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين وإسماعيل القاضي . وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض ، ومشهور مذهب مالك وجل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة ، وهو قول الشافعي . ومذهب عامة البغداديين من أصحابنا أن الفرض التخيير ، وهو قول أصحاب الشافعي . ثم اختلف أصحاب التخيير في أيهما أفضل ؟ فقال بعضهم : القصر أفضل ، وهو قول الأبهري من أصحابنا وأكثرهم ، وقيل : إن الإتمام أفضل ، ويحكى عن الشافعي .

[ ص: 325 ] وسبب الخلاف اختلاف الأحاديث في ذلك كما سيأتي ، وقد تأول القائلون بأن القصر ليس بفرض حديث عائشة وحديث ابن عباس أن الفرض فيهما بمعنى التقدير ، وهو أصله في اللغة ، فيكون معناه أن الله تعالى قدر صلاة المسافر بركعتين عددا كما قدر صلاة الحضر أربع ركعات على ما في حديث ابن عباس ، وعلى أي وجه يكون هذا التقدير على حكم الوجوب أو السنة ؟ ذلك يؤخذ من دليل آخر ، وقد دلت أدلة كثيرة على أنه ليس بواجب ; منها حديث عمر حيث قال صلى الله عليه وسلم : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته . وقد روى النسائي من حديث عائشة - وهو صحيح - أن عائشة اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، قصرت وأتممت ، وأفطرت وصمت ! فقال : أحسنت يا عائشة ! وما عابه علي . وهكذا قيدته بفتح التاء الأولى وضم الثانية في الكلمتين ، وكذلك دل قوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة فإذا تقرر أنه ليس بواجب ، فهل هو سنة أم لا ؟ قلنا : هو سنة ، دل عليه مداومته - صلى الله عليه وسلم - على القصر واستمرار عمل الخلفاء على ذلك وأكثر الصحابة .

ثم اختلفوا في السفر الذي تقصر فيه الصلاة ; فذهب عامة العلماء إلى جوازه في كل سفر مباح ومنعه في سفر المعصية - وهو قول مالك والشافعي والطبري وأصحابهم . وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى جوازه في كل سفر طاعة كان أو معصية ، وهو رواية شاذة عن مالك . وذهب داود إلى أنه لا يجوز إلا في سفر الحج والعمرة والغزو لا في غيرها ، وروي ذلك عن ابن مسعود . واختلف عن أحمد بن حنبل ; فمرة قال بقول مالك ، ومرة قال : لا يقصر إلا في [ ص: 326 ] حج أو عمرة . وقال عطاء : لا يقصر إلا في سبيل من سبل الله ، والصحيح المذهب الأول ; لأن القصر إنما شرع تخفيفا عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه ومعونة له على ما هو بصدده مما يجوز ، وكل الأسفار في ذلك سواء ، وأما سفر المعصية فلا يترخص فيه بالقصر ولا بالفطر ; لأن ذلك يكون معونة له على معصية ، والله تعالى يقول : وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [ المائدة :2 ]

واختلفوا في قدر السفر الذي تقصر فيه الصلاة ; فقال داود : تقصر في كل سفر قصير أو طويل ، ولو كان ثلاثة أميال في سفر الطاعة ، وكافة العلماء على أن القصر إنما شرع تخفيفا ، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق فيه المشقة غالبا . واختلفوا في تقديره ; فذهب مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث إلى أنها لا تقصر إلا في اليوم التام . وقول مالك " يوم وليلة " راجع إلى اليوم التام ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، وقدره مالك بثمانية وأربعين ميلا ، والشافعي والطبري بستة وأربعين ميلا ، وهو أمر متقارب . والتفت هؤلاء إلى أقل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم منها . ومسيرة يوم وليلة هو مسيرة اليوم التام ; فإن عادتهم في أسفارهم أن يقيلوا بالنهار ويسيروا بالليل ، ولأن مسيرة يوم تام لا يمكن الخارج من منزله الرجوع إليه من يومه ويبيت ضرورة عنه ، فخرج عن القرار [ ص: 327 ] في السفر . وقال الكوفيون : لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام ، وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة . وقال الحسن وابن شهاب : يقصر في مسيرة يومين . وأولاها القول الأول ، والله تعالى أعلم .

وقول عروة " إنها تأولت ما تأول عثمان " ، اختلف في تأويل إتمام عائشة وعثمان في السفر على أقوال ، وأولى ما قيل في ذلك أنهما تأولا أن القصر رخصة غير واجبة وأخذا بالأكمل ، وما عدا هذا القول إما فاسد وإما بعيد ، ولنذكر ما قيل في ذلك :

فمنها : أن عائشة تأولت أنها أم المؤمنين ، فحيث حلت نزلت في أهلها وولدها ، وهذا يبطل بما بين المنزلتين من المسافات البعيدة ، فإنها كانت تتم فيها وهي على ظهر سفر .

ومنها : أنها كانت لا ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزو ، وذلك باطل ; لأن ذلك لم ينقل عنها ولا عرف من مذهبها ، ثم قد أتمت في سفرها إلى علي رضي الله عنهما .

ومنها : أنها حيث أتمت لم تكن في سفر جائز ، وهذا باطل قطعا ، فإنها كانت أتقى لله وأخوف وأطوع من أن تخرج في سفر لا يرضاه الله تعالى ، وهذا التأويل عليها هو من أكاذيب الشيعة المبتدعة وتشنيعاتهم عليها ، سبحانك هذا بهتان عظيم [ النور :16 ] ! وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة في خروجها تريد أن تطفئ نار الفتنة ، ثم خرجت الأمور عن الضبط ، وأقل درجاتها أن تكون ممن قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر .

[ ص: 328 ] وقد ذكرنا من حديث النسائي عن عائشة ما يبين أن المعنى الذي لأجله أتمت في السفر إنما هو ما اخترناه أولا .

وأما عثمان فقد تؤول له أنه كان إمام الناس ، فحيث حل فهو منزله ، وهذا يرده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بذلك ومع ذلك فلم يفعله .

ومنها : أنه كان معه أهله بمكة . وهذا يرده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سافر بزوجاته وكن معه بمكة ومع ذلك فقصر .

ومنها : أنه إنما فعل ذلك من أجل الأعراب لئلا يظنوا أن فرض الصلاة أبدا ركعتان . وهذا يرده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بذلك ولم يفعله ، ثم قد علم الأعراب والكل من المسلمين أن الصلاة في الحضر أربع ، ومن جهل ذلك من قرب عهد بالإسلام نادر قليل لا تغير القواعد لأجله .

ومنها : أن عثمان أزمع على المقام بمكة بعد الحج ، ويرده أن المقام بمكة للمهاجر أكثر من ثلاث ممنوع .

ومنها : أنه كان لعثمان بمنى أرض ومال فرأى أنه كالمقيم . وهذا فيه بعد ; إذ لم يقل أحد إن المسافر إذا مر بما يملكه من الأرض ولم يكن له فيها أهل حكمه حكم المقيم .

والوجه ما ذكرناه أولا .

التالي السابق


الخدمات العلمية