المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1270 [ 640 ] وعن عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد ذات ليلة ، فصلى بصلاته ناس . ثم صلى من القابلة فكثر الناس - وفي رواية : عجز المسجد عن أهله - ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة ، فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ، قال : وذلك في رمضان .

رواه البخاري (119)، ومسلم (671) (177 و 178)، وأبو داود (1373)، والنسائي (3 \ 202) .


[ ص: 388 ] (106) ومن باب : الترغيب في قيام رمضان

قوله : كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة ، يدل : على أن قيام الليل في رمضان من نوافل الخير ، ومن أفضل أعمال البر ، لا خلاف في هذا ، وإنما الخلاف في الأفضل منه . هل إيقاعه في البيت ، أو في المسجد ؟ فذهب مالك إلى أن إيقاعه في البيت أفضل لمن قوي عليه ، وكان أولا يقوم في المسجد ثم ترك ذلك ، وبه قال أبو يوسف ، وبعض أصحاب الشافعي . وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي : إلى أن حضورها في الجماعة أفضل ، وقال الليث : لو قام الناس في بيوتهم ، ولم يقم أحد في المسجد ، لا ينبغي أن يخرجوا إليه ، والحجة لمالك قوله - صلى الله عليه وسلم - : خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ، وقول عمر : نعمت البدعة هي ، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون فيها . وحجة مخالفه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلاها في الجماعة في المسجد ، ثم أخبر بالمانع الذي منعه من الدوام على ذلك ، وهو خشية أن تفرض عليهم ، ثم إن الصحابة كانوا يصلونها في المسجد أوزاعا متفرقين ; إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد ، فاستقر الأمر على ذلك ، وثبتت سنته بذلك .

[ ص: 389 ] قلت : ومالك أحق الناس بالتمسك بهذا ; بناء على أصله في التمسك بعمل أهل المدينة .

وقوله : من قام رمضان ، دليل على جواز إطلاق لفظ رمضان غير مضاف إلى شهر ; خلافا لمن منع ذلك حتى يقال : شهر رمضان ، قال : لأن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولا يصح هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله : إيمانا واحتسابا ; أي : تصديقا بما جاء في ذلك ، واحتسابا بالأجرة على الله تعالى . وقد روي : من قام رمضان وصامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه .

وقوله : فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك ، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر ; أي : لم يزل أمر قيام رمضان معلوم الفضيلة يقومونه لكن متفرقين وفي بيوتهم ; ولم يجمعوه على قارئ واحد ; حتى كان من جمع عمر لهم على أبي في المسجد ما قد ذكره مالك في الموطأ .

ثم اختلف في المختار من عدد القيام ، فعند مالك : أن المختار من ذلك ست وثلاثون ; لأن ذلك عمل أهل المدينة المتصل . وقد قال نافع : لم أدرك الناس إلا وهم يقومون بتسع وثلاثين ركعة ، يوترون منها بثلاث . وقال الشافعي : عشرون [ ص: 390 ] ركعة ، وقال كثير من أهل العلم : إحدى عشرة ركعة ، أخذا بحديث عائشة المتقدم . وسيأتي الكلام على أحاديث ليلة القدر .

وقوله : من يقم ليلة القدر فيوافقها : اختلف في القدر الذي أضيفت الليلة إليه ، فقال ابن عباس : القدر : العظمة ; من قوله : وما قدروا الله حق قدره [ الأنعام : 91] ; أي : ما عظموه حق عظمته ، وقال مجاهد : القدر : تقدير الأشياء من أمور السنة . وقال ابن الفضل : يعني سوق المقادير إلى المواقيت ، وقيل : قدر في وقتها إنزال القرآن .

ويقم في - هذه الرواية - يعني به : يطلب بقيامه ليلة القدر ، وحينئذ يلتئم مع قوله : يوافقها ; لأن معنى يوافقها : يصادفها ، ومن صلى فيها فقد صادفها ، [ ص: 391 ] ويحتمل أن تكون الموافقة هنا : عبارة عن قبول الصلاة فيها والدعاء ، أو يوافق الملائكة في دعائها ، أو يوافقها حاضر القلب متأهلا لحصول الخير والثواب ; إذ ليس كل دعاء يسمع ، ولا كل عمل يقبل ، فإنه : إنما يتقبل الله من المتقين [ المائدة : 27] وسيأتي استيفاء هذا المعنى إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية