المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
104 (23) باب

نسبة الاختراع لغير الله حقيقة كفر

[ 57 ] عن زيد بن خالد الجهني ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف ، أقبل على الناس ، فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .

قال : قال :
أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ; فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب .


رواه أحمد ( 4 \ 117 ) ، والبخاري ( 846 ) ، ومسلم ( 71 ) ، وأبو داود ( 3906 ) ، والنسائي ( 3 \ 165 ) .


[ ص: 258 ] (23) ومن باب : نسبة الاختراع إلى غير الله حقيقة كفر

(قوله : " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل ") أكثر الرواة يشددون ياء الحديبية ، وهي لغة أهل اليمن ، وأهل العراق يخففونها . والجعرانة يقولها أهل المدينة بكسر العين وتشديد الراء ، وأهل العراق يسكنون العين ويخففون الراء ، وابن المسيب وأهل المدينة يكسرون الياء مشددة ، وأهل العراق يفتحونها ، وكذلك قرأته ، وقيدته على من لقيته وقيدت عليه .

والحديبية : موضع فيه ماء بينه وبين مكة أميال ، وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه وهو محرم بعمرة قبل فتح مكة ، فصده المشركون عن البيت ، فصالحهم وشرط لهم وعليهم ، ولم يدخل مكة في تلك السنة ، ورجع إلى المدينة ، فلما كان العام المقبل ، دخلها ، وسيأتي تفصيل ذلك كله ، إن شاء الله تعالى .

وإثر الشيء بكسر الهمزة وإسكان الثاء المثلثة : بعده وعقبه ، ويقال فيه : أثر ، بفتح الهمزة والثاء . والسماء هنا المطر ، سمي بذلك ; لأنه من السماء ينزل ، وحقيقة السماء : كل ما علاك فأظلك .

و (قوله : " فلما انصرف ، أقبل على الناس " ) أي : انصرف من صلاته ، وفرغ منها ; فظاهره : أنه لم يكن يثبت في مكان صلاته بعد سلامه ; بل كان ينتقل عنه ويتغير عن حالته ، وهذا الذي يستحبه مالك للإمام في المسجد ; كما سيأتي .

[ ص: 259 ] و (قوله : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ") ظاهره : أنه الكفر الحقيقي ; لأنه قابل به المؤمن الحقيقي ، فيحمل على من اعتقد أن المطر من فعل الكواكب وخلقها ، لا من فعل الله تعالى ; كما يعتقده بعض جهال المنجمين والطبائعيين والعرب .

فأما من اعتقد أن الله تعالى هو الذي خلق المطر واخترعه ثم تكلم بذلك القول ، فليس بكافر ; ولكنه مخطئ من وجهين :

أحدهما : أنه خالف الشرع ; فإنه قد حذر من ذلك الإطلاق .

وثانيهما : أنه قد تشبه بأهل الكفر في قولهم ، وذلك لا يجوز ; لأنا قد أمرنا بمخالفتهم ; فقال : خالفوا المشركين ، وخالفوا اليهود . ونهينا عن التشبه بهم ; وذلك يقتضي الأمر بمخالفتهم في الأفعال والأقوال على ما يأتي إن شاء الله تعالى ، ولأن الله تعالى قد منعنا من التشبه بهم في النطق ، بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] لما كان اليهود يقولون تلك الكلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقصدون ترعينه ، منعنا الله من إطلاقها ، وقولها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن قصدنا بها الخير ; سدا للذريعة ، ومنعا من التشبه بهم . فلو قال غير هذا اللفظ [ ص: 260 ] الممنوع يريد به الإخبار عما أجرى الله به سنته جاز ; كما قال - عليه الصلاة والسلام - : إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت ، فتلك عين غديقة .

و (قوله : " فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ") أي : مصدق بأن المطر خلقي لا خلق الكوكب ، أرحم به عبادي ، وأتفضل عليهم به ، كما قال : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد [ الشورى : 28 ] .

والنوء لغة : النهوض بثقل ، يقال : ناء بكذا : إذا نهض به متثاقلا ; ومنه : لتنوء بالعصبة [ القصص : 76 ] أي : لتثقلهم عند النهوض بها . وكانت العرب إذا طلع نجم من المشرق ، وسقط آخر من المغرب ، فحدث عند ذلك مطر أو ريح : فمنهم من ينسبه إلى الطالع ، ومنهم من ينسبه إلى الغارب الساقط نسبة إيجاد واختراع ، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث ، فنهى الشرع عن إطلاق ذلك ; لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ، ولا يتشبه بهم في نطقهم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية