المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1354 (121) باب إنزال القرآن على سبعة أحرف

[ 691 ] عن عمر بن الخطاب قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها ، فكدت أن أعجل عليه ، ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه ، فجئت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسله . اقرأ . فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هكذا أنزلت ، ثم قال لي : اقرأ . فقرأت فقال : هكذا أنزلت . إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤوا ما تيسر منه .

رواه أحمد (1 \ 40)، والبخاري (6936)، ومسلم (818) (270)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2944)، والنسائي (2 \ 150 و 152) .


[ ص: 447 ] (121) ومن باب : إنزال القرآن على سبعة أحرف

قوله : فلببته بردائه ; أي : جمعت ثوبه على حلقه ، وأصله من اللبة ، وهي الثغرة التي في أسفل الحلق ، وهذا من عمر - رضي الله عنه - غيرة على كتاب الله ، وقوة في دينه .

وقوله لعمر : أرسله ; أي : أطلقه ، لينفس عنه ، حتى يعرب عن نفسه .

وقوله لهشام : اقرأ ، ليسمع ما ادعى عليه إفساده ، ليتضح ذلك .

وقوله لعمر : اقرأ : لتجويز الغلط على عمر ، أو ليبين أن كل واحدة من القراءتين جائزة ، كما قد صوبه فيها بعد ذلك بقوله : هكذا أنزلت .

واختلف في قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف على خمسة وثلاثين قولا ; حكاها أبو حاتم بن حبان ، أولاها عند المحققين ، وأقربها بمساق الأحاديث : أن [ ص: 448 ] السبعة أحرف هي سبع لغات من لغات العرب . قال أبو عبيد : يمنها ، ومعدها ، وهي أفصح اللغات وأعلاها من كلامهم ، وقيل : بل هذه السبع لغات لمضر لا لغيرها . قالوا : وهذه اللغات متفرقة في القرآن ، لا يلزم اجتماعها في الكلمة الواحدة ، ولو اجتمعت لم يكن في ذلك بعد ، ويمكن أن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعها من جبريل في عرضات سبع ، أو في واحدة ، ويوقفه على المواضع المختلف فيها . ثم لا يشترط أن يكون اختلاف هذه اللغات السبع في كيفيات الكلمات من : الإدغام ، والإظهار ، والمد ، والقصر ، والإمالة ، والفتح ، وما بين اللفظين ، والتغليظ ، والترقيق ، واختلاف الإعرابات فقط ، بل يجوز أن يكون في هذه كلها ، وفي ألفاظ مترادفة على معنى واحد ، كما قد روي أنه قرئ : انظرونا نقتبس من نوركم [ الحديد : 13] و "أخرونا" و "أنسئونا" ، وفي قوله : كلما أضاء لهم مشوا فيه [ البقرة : 20] و "مروا" و "سعوا" ، وفي قوله : فاسعوا إلى ذكر الله و "امضوا" ، وفي زيادة ألفاظ : فيزيد بعضهم كلمة ، وينقصها غيرهم ; كما في قوله : من تحتها [ مريم : 24 ] وأسقطها آخرون ، و : إن الله هو الغني الحميد [ لقمان : 26 ] و (أن الله الغني) بإسقاط هو . وهذا النحو من الاختلاف هو الذي كثر في خلافة عثمان ، حتى خاف أن يتبدل كثير من القرآن ، ويتغير ، ويختلف الناس ، فاتفق نظره ونظر الصحابة أجمعين على جمع الناس على مصحف واحد ، فكتبوه على لغة قريش ، وعلى حرق ما عداه من المصاحف المخالفة لذلك المصحف ، وهذا النحو من الاختلاف هو الذي أنكره عمر ، لما سمعه من هشام ، والذي أنكره أبي أيضا وعظم عليه ; لأنهما لما سمعا كلمات مخالفة للتي قرآ بها على النبي - صلى الله عليه وسلم - . [ وقد دل على هذا : أن النسائي أخرج هذا الحديث . وقال فيه : إن عمر قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان ، فقرأ فيها حروفا لم يكن [ ص: 449 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها ، ولما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : إني سمعت هذا يقرأ فيها حروفا لم تكن أقرأتنيها . وهذا نص ] . وعن ذلك تحرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يقصر أمته على حرف واحد ; حتى سأل الله - تعالى - في أن يخفف عنهم ، فأجيب إلى ذلك ، ووسع عليهم ، وأنهى التوسيع إلى هذه ; لأنها لغات أكثر العرب الحجازيين ، ولو ضيق على الناس حتى يقرأ الكل بلغة واحدة ; لشق ذلك عليهم ، وحرجوا ; لأنهم كانوا يكلفون أن يخرجوا عن أسلوب طباعهم وعاداتهم في كلامهم ، لا سيما في حدة الأمر وفجأته ، فلما وسع عليهم في ذلك [ أمر كل منهم أن يقرأ بلغته ولا ينكر على غيره ، واتسع الناس في ذلك ] في صدر الإسلام ، وإلى زمن عثمان - رضي الله عنه - ، فلما خاف عثمان - رضي الله عنه - أن يتعدى الناس حد التوسعة ومحلها ، وأدخل بعض الناس في مصحفه ما ليس بقرآن ; كالتشهد ، والقنوت ، وغير ذلك ، أو ما كان قد نسخت تلاوته ; شاور الصحابة على جمع الناس على مصحف واحد ، يكتبونه بلغة قريش ، فأجابوه لذلك ، واجتهدوا في ذلك غايتهم ، وبذلوا في حفظه وصيانته غاية وسعهم ، ثم أجمعوا على أن يكتبوه كذلك ، وأن يكتبوا منه نسخا ، وأن يوجهوها للأمصار [ ففعلوا ، فوجهوا للعراق والشام ومصر بأمهات ، فاتخذها قراء الأمصار معتمد اختياراتهم ] ، ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه ، وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم ، وينقصها بعضهم ; فذلك لأن كلامهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه أو رواه ; إذ قد كان عثمان قد كتب تلك المواضع في بعض [ ص: 450 ] نسخ المصاحف ، ولم يكتبها في بعض ; إشعارا بأن كل ذلك صحيح ، وأن القراءة بكل منها جائزة .

قلت : فكل ما تضمنته تلك المصاحف متواتر ، مجمع عليه من الصحابة وغيرهم ، وما خرج عن تلك المصاحف لا تجوز القراءة به ، ولا الصلاة ; لأنه ليس من القرآن المجمع عليه ، فأما هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ، فقال كثير من علمائنا ; كالداودي ، وابن أبي صفرة وغيرهما : إنها ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها ، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة ، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف ; ذكره ابن إسحاق وغيره . وهذه القراءات المشهورة هي اختيار أولئك الأئمة القراء ، وذلك أن كل واحد منهم اختار فيما روى وعلم وجهة من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى ، فالتزمه طريقة ، ورواه ، وأقرأ به فاشتهر عنه ، وعرف به ، فنسب إليه ، فقيل : حرف نافع ، وحرف ابن كثير ، ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر ، ولا أنكره ، بل سوغه وجوزه ، فكل واحد من هؤلاء السبعة ، روي عنهم اختياران أو أكثر ، وكل صحيح . وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة ، مما رووه ورأوه من القراءات ، وكتبوا في ذلك مصنفات ، فاستمر الإجماع على الصواب ، وحصل ما وعد الله - تعالى - به من حفظ الكتاب ، وعلى هذا الذي قررناه الأئمة المتقدمون ، والفضلاء المحققون ; كالقاضي أبي بكر ابن الطيب والطبري ، وغيرهما .

وقوله : فاقرؤوا ما تيسر منه ، الضمير في : " منه " عائد على القرآن ، [ ص: 451 ] لا على الأحرف ; إذ لو كان عائدا على الأحرف ; لقال : منها ، وإنما أعاده على القرآن ; ليبين أنه يجوز أن يقرأ بما تيسر من الأحرف ، ومن القرآن ، لا أنه إذا أباح الاقتصار على قراءة بعض القرآن ، فلأن يجوز الاقتصار على بعض الأحرف أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية