المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1389 [ 709 ] وعن سهل بن أبي حثمة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في الخوف ، فصفهم خلفه صفين ، فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفهم ركعة ، ثم تقدموا ، وتأخر الذين كانوا قدامهم ، فصلى بهم ركعة ، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ثم سلم .

رواه أحمد (3 \ 448)، والبخاري (4131)، ومسلم (841)، وأبو داود (1237 - 1239)، والترمذي (565)، والنسائي (3 \ 170- 171)، وابن ماجه (1259) .


(126) ومن باب : صلاة الخوف

قولنا : صلاة الخوف : هي الصلاة المعهودة تحضر والمسلمون متعرضون لحرب العدو ، وقد اختلف العلماء : هل للخوف تأثير في تغيير الصلاة المعهودة [ ص: 469 ] عن أصل مشروعيتها المعروفة أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أن للخوف تأثيرا في تغيير الصلاة ، على ما يأتي تفصيل مذاهبهم . وذهب أبو يوسف إلى أنه لا تغيير في الصلاة لأجل الخوف اليوم ، وإنما كان التغيير المروي في ذلك ، والذي عليه القرآن ، خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مستدلا بخصوصية خطابه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة [ النساء : 102 ] قال : فإذا لم يكن فيهم لم تكن صلاة الخوف . وهذا لا حجة فيه لثلاثة أوجه :

أحدها : أنا قد أمرنا باتباعه ، والتأسي به ، فيلزم اتباعه مطلقا ; حتى يدل دليل واضح على الخصوص ، ولا يصلح ما ذكره دليلا على ذلك ، ولو كان مثل ذلك دليلا على الخصوصية ; للزم قصر الخطابات على من توجهت له ، وحينئذ يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها . لكن قد تقرر بدليل إجماعي ; أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع ، وكذلك ما يخاطب هو به ; كقوله تعالى : فإن كنت في شك [ يونس : 94 ] ، يا أيها النبي حسبك الله [ الأنفال :64 ] ونحوه كثير .

وثانيها : أنه قد قال - صلى الله عليه وسلم - : صلوا كما رأيتموني أصلي .

وثالثها : أن الصحابة - رضي الله عنهم - اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة ، وعدوه إلى غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهم أعلم بالمقال ، وأقعد بالحال ، فلا يلتفت إلى قول من ادعى الخصوصية .

[ ص: 470 ] ثم اختلف الجمهور في كيفية صلاة الخوف على أقوال كثيرة لاختلاف الأحاديث المروية في ذلك ، فلنذكر تلك الأحاديث ، ونذكر مع كل حديث من قال به إن وجدنا ذلك - إن شاء الله تعالى - . فلنبدأ من ذلك بالحديث الأول ; وهو حديث ابن عمر، ومضمونه : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا ، وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ، وصلى بهم ركعة ، ثم سلم ، فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ، وبه أخذ الأوزاعي وأشهب ، وحكي عن الشافعي . واختلف في تأويل قضائهم ; فقيل : قضوا معا ، وهو تأويل ابن حبيب ، وعليه حمل قول أشهب . وقيل : قضوا مفترقين ; مثل حديث ابن مسعود ، وهو المنصوص لأشهب .

الحديث الثاني : حديث جابر ، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - صفهم صفين خلفه ، والعدو بينهم وبين القبلة ، وصلى بهم جميعهم صلاة واحدة ، لكنه لما سجد ; سجد معه الصف الأول الذي يليه ، وقام الصف المؤخر ، ثم تقدموا وتأخر المقدم ، ثم عملوا بالركعة الثانية كما فعلوا في الأولى . ونحوه حديث ابن عباس . وبهذا قال ابن أبي ليلى ، وأبو يوسف في قول له : إذا كان العدو في القبلة ، وروي عن الشافعي ، واختاره بعض أصحابه وأصحابنا .

الحديث الثالث : حديث سهل بن أبي حثمة ; وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة الأولى ركعة ، ثم ثبت قائما ، فأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا ، وصفوا وجاه العدو ، [ ص: 471 ] وجاءت الطائفة الأخرى ، فصلى بهم ركعة ، ثم ثبت جالسا حتى أتموا ، ثم سلم بهم . ونحوه حديث صالح . وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأبو ثور .

الحديث الرابع : حديث أبي سلمة عن جابر : أنه صلى أربع ركعات ، بكل طائفة ركعتين ، وهو اختيار الحسن ، وذكر عن الشافعي ، ورواه غير مسلم من طريق أبي بكرة وجابر . وأنه سلم من كل ركعتين . قال الطحاوي : إنما كان هذا في أول الإسلام ; إذ كان يجوز أن تصلى الفريضة مرتين ، ثم نسخ ذلك .

الحديث الخامس : رواه أبو هريرة ، وابن مسعود : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة التي وراءه ركعة ، ثم انصرفوا ، ولم يسلموا ، فوقفوا بإزاء العدو ، وجاء الآخرون ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم ، فقضى هؤلاء ركعتهم ، ثم سلموا ، وذهبوا ، فقاموا مقام أولئك ، ورجع أولئك فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا . والفرق بين هذه الرواية ورواية ابن عمر : أن ظاهر قضاء أولئك في حديث ابن عمر في حالة واحدة ، ويبقى الإمام كالحارس وحده ، وها هنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم ، وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما في حديث ابن مسعود ، وبهذا أخذ أبو حنيفة وأصحابه ، إلا أبا يوسف ، وهو نص قول أشهب من أصحابنا ; خلاف ما تأول عليه ابن حبيب .

الحديث السادس : ذكره أبو داود من حديث ابن مسعود : أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر فكبر [ ص: 472 ] معه الصفان جميعا ، وفيه : أن الطائفة الثانية لما صلت معه ركعة وسلمت ; رجعت إلى مقام أصحابهم ، وجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعة لأنفسهم ، فرجعوا إلى مقام أصحابهم ، وأتم أولئك لأنفسهم .

الحديث السابع : ذكره أبو داود من رواية أبي هريرة : أنها قامت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقابلة العدو وظهورهم إلى القبلة ، فكبر جميعهم ، ثم صلى بالذين معه ركعة ، والآخرون قيام ، ثم قام وذهبت الطائفة التي معه إلى العدو ، وأقبلت تلك فصلى بهم ركعة ، ثم أقبلت الطائفة الأولى ، فصلوا ركعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم ، ثم صلى بهم ركعة ، ثم أقبلت الطائفة الأولى ، فصلت ركعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد ومن معه ، ثم سلم ، وسلموا جميعا .

الحديث الثامن : من حديث عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنه كبر وكبرت معه الطائفة التي تليه ، وصلى بهم ركعة وسجدة ، وثبت جالسا ، وسجدوا هم السجدة التي بقيت لهم ، ثم انصرفوا القهقرى ، حتى قاموا من ورائهم ، وجاءت الطائفة الأخرى فكبروا ، ثم ركعوا - يعني لأنفسهم - ، ثم سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني سجدته التي بقيت عليه من الركعة الأولى ، فسجدوا معه ، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأتموا هم السجدة التي بقيت عليهم ، ثم قامت الطائفتان ، فصلى بهم جميعا ركعة كأسرع الإسراع .

الحديث التاسع : حديث ابن أبي حثمة من رواية صالح بن خوات عنه : أن الطائفة الأولى لما صلت ركعتها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم صلت الركعة الأخرى لنفسها [ ص: 473 ] سلمت ، ثم تقدمت ، وجاءت الأخرى . وهذا خلاف الحديث الآخر الذي ذكر فيه آخرا : ثم سلم بهم جميعا . ومن رواية القاسم في حديث ابن أبي حثمة : أنه - صلى الله عليه وسلم - سلم عند تمام صلاته الركعة الثانية بالطائفة الثانية ، وأتموا بعد سلامه ; خلاف الروايات الأخر عن القاسم ويزيد بن رومان : أنه انتظرهم حتى قضوا ، ثم سلم . وقد اختلف قول مالك في الأخذ برواية القاسم ، أو برواية يزيد . وبرواية القاسم أخذ أكثر أصحاب مالك لصحة القياس : أن القضاء إنما يكون بعد سلام الإمام . وهو اختيار أبي ثور ، واختيار الشافعي في الرواية الأخرى .

الحديث العاشر : ما رواه أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا ، ويؤيده حديث ابن عباس : صلاة الخوف ركعة ، وبه قال إسحاق .

ثم اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث ; فمنهم من ذهب إلى أن هذه الكيفيات كلها جائزة ، وأن الإمام مخير في أيها شاء فعل ، وممن ذهب إليه : أحمد بن حنبل ، والطبري وبعض الشافعية ; قالوا : وقد يجوز أن يكون ذلك في مرات على حسب شدة الخوف ، إلا أن أحمد اختار حديث سهل بن أبي حثمة ، وقال : كلها جائزة ، وذلك على قدر الخوف ، وكل من عين من هذه الكيفيات واحدة فبحسب ترجيح حصل عنده أوجب له المصير إلى ما صار إليه ; ولذلك قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة ، وأشكال متباينة ، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة ، وأبلغ في الحراسة . وذكر ابن القصار : أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها في عشرة مواضع ، وذكر غيره : أنه صلاها أكثر من هذا العدد ، ففي حديث ابن أبي حثمة وأبي هريرة وجابر أنه صلاها يوم [ ص: 474 ] ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة ، وهي غزوة نجد وغطفان . وفي حديث ابن عباس : أنه صلاها بعسفان ، ويوم بني سليم . وفي حديث جابر : في غزاة جهينة ، وفي غزاة محارب بنجد . وقد ذكر بعضهم صلاته إياها ببطن نخل على باب المدينة . وعليها حمل بعضهم صلاته بكل طائفة ركعتين . لكن مسلما قد ذكرها في غزوة ذات الرقاع . وذكر الدارقطني : أنه صلى بهم المغرب ثلاثا ، ثلاثا ، وبه قال الحسن والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا ; وهو : أنه يصلي بالأولى ركعتين ، وبالثانية ركعة ، وتقضي ; على اختلاف أصولهم فيه : متى يكون ; هل قبل سلام الإمام أو بعده ؟ على ما تقرر .

وقول ابن عمر : فإن كان خوف أكثر من ذلك ; فصل راكبا أو قائما ، تومئ إيماء : قال في الموطأ : مستقبل القبلة وغير مستقبلها . وبهذا أخذ مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة الفقهاء ، ويشهد له قوله تعالى : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ البقرة : 239 ] . قال بعض علمائنا : بحسب ما يتمكن منه . [ ص: 475 ] وقال جماعة من الصحابة والسلف : يصلي في الخوف ركعة ، يومئ فيها إيماء ، وقاله الضحاك ; قال : فإن لم يقدر على ركعة ; فتكبيرتين حيث كان وجهه ، وقال إسحاق : إن لم يقدر على ركعة إنما يصلي سجدة ، فإن لم يقدر فتكبيرة ، وقال الأوزاعي نحوه إذا تهيأ الفتح ، لكن إن لم يقدر على ركعة ولا على سجدة ; لم تجزه التكبيرة ، وأخرها حتى يأمنوا . ومنع مكحول وبعض أهل الشام من صلاة [ ص: 476 ] الخائف جملة متى لم يتهيأ له أن يأتي بها على وجهها ، ويؤخرها إلى أن يتمكنوا من ذلك ، واحتجوا بتأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ، ولا حجة لهم فيه ; لأن صلاة الخوف إنما شرعت بعد ذلك على ما تقدم . واختلف الذين قالوا بجواز ذلك للمطلوب في جواز ذلك للطالب ، فمالك وجماعة من أصحابه على التسوية بينهما ، وقال الشافعي والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم : لا يصلي الطالب إلا بالأرض .

ثم اختلفوا فيما يباح له من العمل في الصلاة ; فجمهورهم على جواز كل ما يحتاج إليه في مطاردة العدو ، وما يضطر إليه من ذلك ; من مشي ونحوه ، وقال الشافعي : إنما يجوز من ذلك الشيء اليسير ، والطعنة والضربة ، فأما ما كثر فلا تجزئه الصلاة ، ونحوه عن محمد بن الحسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية