المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1428 (5) باب

الخطبة ، والقيام لها ، والجلوس بين الخطبتين ، والإشارة باليد

[ 731 ] عن جابر بن عبد الله : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائما يوم الجمعة ، فجاءت عير من الشام ، فانفتل الناس إليها ، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا - وفي رواية : فيهم أبو بكر وعمر - فأنزلت هذه الآية : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما [ الجمعة : 11 ]

رواه مسلم (863) (38)، وأبو داود (1093 - 1095)، والنسائي (3 \ 110) .


[ ص: 498 ] (5) ومن باب : الخطبة والقيام لها

قوله : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما : هكذا سنة الخطبة ليكون أبلغ في الإسماع ; كالمؤذن [ عند الجمهور ] ، إلا أن تدعوه حاجة من ضعف أو غيره . وقد حكي عن أبي حنيفة : أنه لا يرى القيام لها مشروعا . حكاه ابن القصار ، بل هو عنده مباح . ثم اختلف في مشروعيته ; هل هو شرط في صحة الخطبة والجمعة أم لا ؟ فذهب الشافعي إلى أنه شرط إلا مع العذر ، ومذهبنا : أنه ليس من شروط الصحة للخطبة ولا للجمعة ، ومن تركه أساء ولا شيء عليه . وقد روي : أن أول من خطب جالسا معاوية لما ثقل .

واختلف في الخطبة : هل هي شرط في صحة الجمعة أم لا ؟

فكافة العلماء على أنها شرط ، وشذ الحسن ، فرأى أن الصلاة تجزئ دونها ، وتابعه أهل الظاهر في هذا ، وحكاه ابن الماجشون عن مالك . ثم اختلف هؤلاء : هل هي فرض ، أو سنة ؟ واضطربت الروايات عن أصحابنا في ذلك ، ثم [ ص: 499 ] اختلفوا في الخطبة المشروعة : فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه لا يجزئ في الخطبة إلا ما وقع عليه اسم الخطبة عند العرب . وأبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا إلى أنه يجزئ من ذلك تحميدة ، أو تهليلة ، أو تسبيحة ، وحكاه ابن عبد الحكم عن مالك .

والعير : الإبل التي تحمل الأطعمة والتجارة ، وهي المسماة في الرواية الأخرى : سويقة ، وهي تصغير سوق .

وقوله : فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا : فيه رد على من يقول : إن الجمعة لا تقام إلا على أربعين فصاعدا ، وحكي ذلك عن الشافعي ، وقد تمسك بهذا الحديث طائفة من أهل العلم على أن أقل ما تنعقد به الجمعة اثنا عشر ، ولا حجة فيه على ذلك ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عقدها ، وشرع فيها بأكثر من هذا العدد ، ثم عرض لهم أن تفرقوا ، ولم يبق منهم غير ذلك العدد . وقد روي في بعض روايات هذا الحديث : أنه بقي معه أربعون رجلا ، والأول أصح وأشهر .

وعلى الجملة فقد اختلف العلماء في العدد المشروط في وجوب الجمعة ، وفي العدد الذي تصح ببقائهم إذا تفرقوا عن الإمام بعد شروعه فيها على أقوال كثيرة ، فلنرسم فيه مسألتين :

المسألة الأولى : اختلف هل يشترط في وجوب الجمعة عدد ؟ فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء إلى اشتراطه ، وذهب داود إلى أنه لا يشترط ذلك في وجوبها ، وتلزم المنفرد ، وهي ظهر ذلك اليوم عنده لكل أحد . قال القاضي عياض : وهو خلاف الإجماع . واختلف المشترطون : هل هو مختص [ ص: 500 ] بعدد محصور أم لا ؟ فعدم الحصر هو مذهب مالك ; فإنه لم يشترط في ذلك حدا محدودا ، وإنما قال : يكونون بحيث يمكنهم الثواء في بلدهم ، وتتقرى بهم قرية . وفسره بعض أصحابنا بنصب الأسواق فيها ; حكاه عياض . والمشترطون للعدد اختلفوا : فمن قائل : مئتان ، ومن قائل : خمسون ; قاله عمر بن عبد العزيز ، ومن قائل : أربعون ; قاله الشافعي ، ومن قائل : ثلاثون بيتا ; قاله مطرف ، وعبد الملك ، عن مالك ، ومن قائل : اثنا عشر ، ومن قائل : أربعة ; قاله أبو حنيفة ، لكن إذا كانوا في مصر . وقال غيره : ثلاثة ، وقيل : واحد مع الإمام . وهذه أقوال متكافئة ، وليس على شيء منها دليل ، فالأصل ما صار إليه مالك من عدم التحديد ، والتمسك بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والعمل المتصل في ذلك : فإنهم كانوا يجمعون في الأمصار الكبار ، والقرى الصغار ; كجواثا وغيرها .

وأما المسألة الثانية : فقد اختلفوا فيما إذا كمل ما تنعقد به الجمعة ، ثم تفرقوا عن الإمام ، فقيل : إنها تجزئ وإن بقي وحده ; قاله أبو ثور ، وحكي عن الشافعي . وقيل : إذا بقي معه اثنان ، وهو قول الثوري ، والشافعي ، وقيل : إذا بقي معه اثنا عشر رجلا ; تمسكا بهذا الحديث ، وحكاه أبو يعلى العبدي عن أصحاب مالك ، وبه قال إسحاق ، ثم اختلفوا في الحال التي يتفرقون عنها ; فقال أبو حنيفة : إن عقد بهم ركعة أو سجدة ثم تفرقوا عنه أجزأه أن يتمها جمعة ، وإن كان قبل ذلك استقبل ظهرا . وقال مالك والمزني : إن صلى بهم ركعة بسجدتيها أتمها جمعة ، وإلا لم تجزه ، وقال زفر : متى تفرقوا قبل الجلوس للتشهد لم تصح جمعة ، وإن جلس وتفرقوا عنه قبل السلام صحت ، وقال ابن القاسم وسحنون : إن تفرقوا عنه قبل سلامه لم تجزئ الجمعة . وللشافعي قول ثالث : إنها لا تجزئه حتى يبقى معه [ ص: 501 ] أربعون رجلا إلى تمام الصلاة . والأصح من هذه الأقوال ما يعضده هذا الحديث ، وهو قول إسحاق وأصحابنا ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا [ الجمعة : 11 ] : التجارة هنا : العير التي تحمل التجارة ، واللهو : الطبل ; الذي كانوا يضربونه عند قدومهم ، وانفضوا ; أي : تفرقوا .

وقوله : وتركوك قائما ; أي : تخطب . [ فهذا ذم لمن ترك الخطبة بعد الشروع فيها ، ونهي للمسلمين أن يتفرقوا عن إمامهم ] . [ وقد استدل به على اشتراط الخطبة في الجمعة ، وفيه بعد ] ، وأحسن متمسك فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - : صلوا كما رأيتموني أصلي .

التالي السابق


الخدمات العلمية