المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1436 [ 740 ] وعن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مخاطبته ضمادا : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد . . . ، وسيأتي بكماله .

رواه أحمد (1 \ 302)، ومسلم (868)، والنسائي (6 \ 89 - 90)، وابن ماجه (1893) .


[ ص: 506 ] (6) ومن باب : ما يقال في الخطبة

كونه - صلى الله عليه وسلم - تحمر عيناه ، ويعلو صوته ، ويشتد غضبه في حال خطبته ; كان هذا منه في أحوال ، وهذا مشعر بأن الواعظ حقه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ما يطابقه ، حتى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه ، وأما اشتداد غضبه ; فيحتمل أن يكون عند نهيه عن أمر خولف فيه ، أو يريد أن صفته صفة الغضبان .

ومنذر الجيش : هو المخبر بجيش العدو الذي يخوف به .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : بعثت أنا والساعة كهاتين : قيدناه بالفتح ، والضم . فأما الفتح ; فهو على المفعول معه ، والرفع على أنه معطوف على التاء في بعثت ، وفصل بينهما بـ " أنا " توكيدا للضمير ; على ما هو الأحسن عند النحويين ، وقد اختار بعضهم النصب بناء على أن التشبيه وقع بملاصقة الأصبعين واتصالهما ، واختار آخرون الرفع بناء على أن التشبيه وقع بالتفاوت الذي بين رؤوسهما ، ويعني أن ما بين زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيام الساعة قريب ; كقرب السبابة من الوسطى ، وهذا أوقع . والله أعلم .

[ ص: 507 ] وقد جاء من حديث سهل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : سبقتها بما سبقت هذه هذه ; يعني الوسطى والسبابة .

وقوله : أما : كلمة تفصل ما بعدها عما قبلها ، وهي حرف متضمن للشرط ، ولذلك تدخل الفاء في جوابها ، وقدرها النحويون بـ مهما . وبعد : ظرف زماني قطع عن الإضافة مع كونها مرادة ، فبني على الضم ، وخص بالضم ; لأنه حركة ليست له في حال إعرابه ، والعامل فيه ما تضمنه " أما " من معنى الشرط ، فإن معناه : مهما يكن من شيء بعد حمد الله فكذا . والله أعلم . وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب [ ص :20 ] أنه قوله : أما بعد .

وقوله : خير الهدي هدي محمد : روي : الهدى : بضم الهاء ، وفتح الدال فيهما ، وبفتح الهاء ، وسكون الدال فيهما ، وهما من أصل فعل واحد من الهداية ، وهي الدلالة والإرشاد . والهدي في مستعمل العرف هديان : هدي دلالة وإرشاد ، وهو الذي يضاف إلى الرسل والكتب ; كما قال تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ الشورى :52 ] ، وفي القرآن : هدى للمتقين [ البقرة : 2] والهدي الثاني : بمعنى التأييد والعصمة من تأثير الذنوب ، والتوفيق ، وهذا هو الهدي الذي لا ينسب إلا لله تعالى ، وهو المراد بقوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ القصص : 56 ] ، وحملت القدرية هذا الهدي على البيان بناء على أصلهم الفاسد في القدر ، كما قدمناه في أول كتاب الإيمان ، ويرد [ ص: 508 ] عليهم قوله تعالى : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ يونس :25 ] ففرق بين الدلالة والهداية ، ولهذا موضع يعرف فيه ، قال أبو عبيد : الهدي بفتح الهاء وإسكان الدال : هو الطريق ، فهدي محمد : طريقه ; كما يقال : فلان حسن الهدي ; أي المذهب في الأمور كلها والسيرة ، ومنه : اهتدوا بهدي عمار .

وقوله : شر الأمور محدثاتها : يعني : المحدثات التي ليس لها في الشريعة أصل يشهد لها بالصحة والجواز ، وهي المسماة بالبدع ; ولذلك حكم عليها بأن كل بدعة ضلالة . وحقيقة البدعة : ما ابتدئ وافتتح من غير أصل شرعي ، وهي التي قال فيها - صلى الله عليه وسلم - : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد .

وقوله : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ; أي : أقرب له من نفسه ، أو أحق به منها ، ثم فسر وجهه بقوله : من ترك مالا فلأهله ، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي . وبيانه : أنه إذا ترك دينا أو ضياعا ولم يقدر على أن يخلص نفسه منه ; إذ لم يترك شيئا يسد به ذلك ، ثم يخلصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيامه به عنه ، أو سد ضيعته ; كان أولى به من نفسه ; إذ قد فعل معه ما لم يفعل هو بنفسه . والله تعالى أعلم .

وأما رواية من رواه : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، في غير الأصل فيحتمل أن يحمل على ذلك ، ويحتمل أن يكون معناه : أنا أولى بالمؤمنين من [ ص: 509 ] بعضهم لبعض ; كما قال تعالى : أن اقتلوا أنفسكم [ النساء :66 ] ; أي ليقتل بعضكم بعضا ، في أشهر أقوال المفسرين .

والضياع : العيال ; قاله النضر بن شميل ، وقال ابن قتيبة : هو مصدر ضاع يضيع ، ضياعا ، ومثله : مضى يمضي ، مضاء ، وقضى يقضي قضاء ، أراد : من ترك عيالا عالة أو أطفالا ، فجاء بالمصدر موضع الاسم ; كما تقول : ترك فقرا ; أي : فقراء . والضياع بالكسر : جمع ضائع ; مثل : جائع وجياع ، وضيعة الرجل أيضا : ما يكون منه معاشه ; من صناعة أو غلة ; قاله الأزهري . وقال شمر : ويدخل فيه : التجارة والحرفة ، يقال : ما ضيعتك ؟ فتقول : كذا .

[ ص: 510 ] قلت : وهذا الكلام إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رفع ما كان قرر من امتناعه من الصلاة على من مات وعليه دين لم يترك له وفاء ; كما قاله أبو هريرة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالميت عليه الدين ، فيسأل : هل ترك لدينه وفاء ؟ فإن قيل : إنه ترك وفاء صلى عليه ، وإن قالوا : لا ; قال : صلوا على صاحبكم . قال : فلما فتح الله عليه الفتوح قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من توفي فترك دينا ، فعلي ، ومن ترك مالا فلورثته .

قال القاضي : وهذا مما يلزم الأئمة من الفرض في مال الله تعالى للذرية وأهل الحاجة ، والقيام بهم وقضاء ديون محتاجيهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية