المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1479 (6) باب

الفرح واللعب في أيام الأعياد

[ 761 ] عن عائشة ، قالت : دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار ، تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث . قالت : وليستا بمغنيتين ، فقال أبو بكر : أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وذلك في يوم عيد . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا بكر ! إن لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا .

وفي رواية : تلعبان بدف .

وفي أخرى : ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجى بثوبه . فانتهرهما أبو بكر ، فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، فقال : دعهما يا أبا بكر ، فإنها أيام عيد . وقالت : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ، وأنا جارية ، فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن .

وفي أخرى : الحريصة على اللهو .

وفي أخرى : يلعبون بحرابهم في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -

رواه أحمد (6 \ 33 و 127)، والبخاري (949)، ومسلم (892) (16 و 17 و 18)، والنسائي (3 \ 195) .


(6) ومن باب : الفرح واللعب في أيام الأعياد

قول عائشة : وعندي جاريتان من جواري الأنصار : الجارية في النساء كالغلام في الرجال ، وهما يقالان على من دون البلوغ منهما ; ولذلك قالت عائشة عن نفسها : فاقدروا قدر الجارية العربة ; أي : الصغيرة ، والعربة : المحببة إلى زوجها ، وقيل : الغنجة ، وقيل : المشتهية للعب ; كما قال في الرواية الأخرى : الحريصة على اللهو بدل : العربة .

وقولها : تغنيان ; أي : ترفعان أصواتهما بإنشاد العرب ، وهو المسمى عندهم بالنصب ، وهو إنشاد بصوت رقيق فيه تمطيط ، وهو يجري مجرى الحداء .

وقولها : بما تقاولت الأنصار يوم بعاث : هو بالباء المعجمة بواحدة من [ ص: 534 ] أسفل ، والعين المهملة ، هكذا رويناه وهو المعروف ، وقاله أبو عبيد : بالغين المعجمة ، وكان يوما من أيام الحروب المعروفة بين الأوس والخزرج ، كان الظهور فيه للأوس على الخزرج .

وقولها : وليستا بمغنيتين ; أي : ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك ، وهذا منها تحرز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به ، الذي يحرك النفوس ، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون ; الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن . وهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ، ووصف محاسنهن ، وذكر الخمور والمحرمات ; لا يختلف في تحريمه ; لأنه اللهو واللعب المذموم بالاتفاق ، فأما ما يسلم من تلك المحرمات ، فيجوز القليل منه ، وفي أوقات الفرح ; كالعرس والعيد ، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، ويدل على جواز هذا النوع هذا الحديث وما في معناه ، على ما يأتي في أبوابه ; مثل ما جاء في الوليمة ، وفي حفر الخندق ، وفي حدو الحبشة ، وسلمة بن الأكوع . فأما ما أبدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة ; فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه ، لكن النفوس الشهوانية والأغراض الشيطانية قد غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير وشهر بذكره ، حتى عموا عن تحريم ذلك وعن فحشه ; حتى قد ظهرت من كثير منهم عوارات المجان والمخانيث ، والصبيان ، فيرقصون ويزفنون بحركات مطابقة ، وتقطيعات متلاحقة ; كما يفعل أهل السفه والمجون ، وقد انتهى التواقح بأقوام منهم إلى أن يقولوا : إن تلك الأمور من أبواب القرب وصالحات الأعمال ، وأن ذلك يثمر صفاء القلوب وسنيات الأحوال ، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة ، وقول أهل البطالة والمخرقة ، نعوذ بالله من البدع والفتن ، ونسأله التوبة والمشي على السنن .

وقول أبي بكر : أبمزمور الشيطان ؟ : إنكار منه لما سمع ، مستصحبا لما [ ص: 535 ] كان مقررا عنده من تحريم اللهو والغناء جملة ; حتى ظن أن هذا من قبيل ما ينكر ، فبادر إلى ذلك ، قياما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك على ما ظهر له ، وكأنه ما كان تبين له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قررهن على ذلك بعد ، وعند ذلك قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : دعهما ، ثم علل الإباحة : بأنه يوم عيد ; يعني أنه يوم سرور وفرح شرعي ، فلا ينكر فيه مثل هذا .

والمزمور : الصوت ، ونسبته إلى الشيطان ; ذم على ما ظهر لأبي بكر . قال الإمام : فأما الغناء بآلة مطربة فيمنع ، وبغير آلة اختلف الناس فيه ، فمنعه أبو حنيفة ، وكرهه الشافعي ومالك ، وحكى أصحاب الشافعي عن مالك : أن مذهبه الإجازة من غير كراهة .

قال القاضي : المعروف من مذهب مالك المنع لا الإجازة . قلت : ذكر الأئمة هذا الخلاف هكذا مطلقا ، ولم يفصلوا موضعه ، والتفصيل الذي ذكرناه لا بد من اعتباره ، وبما ذكرناه يجتمع شمل مقصود الشرع الكلي ومضمون [ ص: 536 ] الأحاديث الواردة في ذلك ، وينبغي أن يستثنى من الآلات التي ذكر الإمام : الدف ، فإنه قد جاء ذكره في هذا الحديث ، وفي حديث العرس .

وتسجية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه بثوبه ; إعراض عنهما . وقالت في الحديث الآخر : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على الفراش مضطجعا ، وإنه حول وجهه عند غناء الجاريتين ، وكأنه أعرض عن ذلك الغناء ; لأنه من قبيل اللغو الذي يعرض عنه . وأما لعب الحبشة في المسجد فكان لعبا بالحراب والدرق تواثبا ورقصا بهما ، وهو من باب التدريب على الحرب والتمرين والتنشيط عليه ، وهو من قبيل المندوب ; ولذلك أباحه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، وفيه دليل على جواز نظر النساء إلى الأجانب من الرجال على مثل هذه الحال التي قد أمنت المفاسد والفتن فيها .

وإنكار عمر عليهم تمسك منه بالصورة الظاهرة ; كما قلنا في حق أبي بكر - رضي الله عنهما - ، وفيه أبواب من الفقه لا تخفى .

التالي السابق


الخدمات العلمية