المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1500 (2) باب

كيفية العمل فيها ، وأنها ركوعان في كل ركعة

[ 776 ] عن عائشة قالت : خسفت الشمس في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد ، فقام فكبر ، وصف الناس وراءه ، فاقترأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة طويلة - من حديث ابن عباس : نحو سورة البقرة - ثم كبر فركع ركوعا طويلا ، ثم رفع رأسه فقال : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ، ثم ركع ركوعا طويلا ، هو أدنى من الركوع الأول ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، ثم سجد ، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ، حتى استكمل أربع ركعات ، وأربع سجدات ، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ، ثم قام فخطب الناس ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة . وقال أيضا : فصلوا حتى يفرج الله عنكم ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم ، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني أتقدم ، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت ، ورأيت فيها ابن لحي وهو الذي سيب السوائب .

وفي رواية : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مناديا : الصلاة جامعة ، فاجتمعوا
.

وفي أخرى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاة الخسوف بقراءته .

وزاد في أخرى : يا أمة محمد ! إن من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته . يا أمة محمد ! والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ، ولضحكتم قليلا ، ألا هل بلغت ؟

وفي أخرى : رفع يديه فقال : اللهم هل بلغت .

رواه أحمد (6 \ 168) ، والبخاري (1046) ، ومسلم (901) (1 و 2 و 3 و 4 و 5) ، وأبو داود (1190) ، والترمذي (561) ، والنسائي (3 \ 127) ، وابن ماجه (1263) .


(2) ومن باب : كيفية العمل فيهما

ذهب الجمهور إلى أن صلاة كسوف الشمس ركعتان ، في كل ركعة ركوعان على ما في حديث عائشة رضي الله عنها وما في معناه ، قال أبو عمر : وهذا أصح ما في هذا الباب ، وغيره من الروايات التي خالفته معلولة ضعيفة ، وأما [ ص: 552 ] الأحاديث الآتية بعد هذا التي تدل على أن في كل ركعة ثلاث ركوعات ، أو أربع ركوعات ، أو خمس ركوعات على ما في حديث أبي ، فقد قال بكل حديث منها طائفة من الصحابة وغيرهم ، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن ذلك الاختلاف إنما كان بحسب طول مدة الكسوف وقصرها ، وفي هذا نظر .

وقوله : قام فخطب : دليل لمن قال : من سنتها الخطبة ، وهم : الشافعي وإسحاق والطبري ، وفقهاء أصحاب الحديث ، وخالفهم في ذلك مالك وأبو حنيفة ، وقالا : إن هذه الخطبة إنما كان مقصودها زجر الناس عما قالوا من أن الكسوف إنما كان لموت إبراهيم ، وليخبرهم بما شاهد في هذه الصلاة ; مما اطلع عليه من الجنة والنار .

وقوله : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى ; أي : دليلان على وجود الحق سبحانه وقهره ، وكمال الإلهية ، وقد خصهما بالذكر ; لما وقع للناس من أنهما يخسفان لموت عظيم ، وهذا إنما صدر عمن لا علم عنده ، ممن ضعف عقه واختل فهمه ، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم جهالتهم ، وتضمن ذلك الرد على من قال بتأثيرات النجوم ، ثم أخبر بالمعنى الذي لأجله يكسفان ; وهو أن الله - تعالى - يخوف بهما عباده . فإن قيل : فأي تخويف في ذلك والكسوف أمر عادي ; بحسب تقابل هذه النيرات وحجب بعضها لبعض ، وذلك يجري مجرى حجب الجسم [ ص: 553 ] الكثيف نور الشمس ، عما يقابله من الأرض ، وذلك لا يحصل به تخويف ؟ قلنا : لا نسلم أن سبب الكسوف ما ادعوه ، ومن أين عرفوا ذلك ؟ بالعقل أم بالنقل ؟ وكل واحد منهما إما بواسطة نظر ، أو بغير واسطة ، ودعوى شيء من ذلك ممنوعة ، وغايتهم أن يقولوا : ذلك مبني على أمور هندسية ورصدية تفضي بسالكها إلى القطع ، ونحن نمنع أيضا ما ذكروه إلى القطع ، وهو أول المسألة ، ولئن سلمنا ذلك جدلا ، لكنا نقول : يحصل بهما تخويف العقلاء من وجوه متعددة ، أوضحها : أن ذلك مذكر بالكسوفات التي تكون بين يدي الساعة ، ويمكن أن يكون ذلك الكسوف منها ، ولذلك قام - صلى الله عليه وسلم - فزعا يخشى أن تقوم الساعة . وكيف لا وقد قال الله عز وجل : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر [ القيامة :7 - 9 ] ؟ قال أهل التفسير : جمع بينهما في إذهاب نورهما ، وقيل غير ذلك . وأيضا فإن كل ما في هذا العالم علويه وسفليه دليل على نفوذ قدرة الله ، وتمام قهره ، واستغنائه ، وعدم مبالاته ، وذلك كله يوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته ; كما قال - تعالى - : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ فاطر : 28] وخص هنا خسوفهما بالتخويف ; لأنهما أمران علويان نادران طارئان عظيمان ، والنادر العظيم مخوف موجع ، بخلاف ما يكثر وقوعه ، فإنه لا يحصل منه ذلك غالبا ، وأيضا فلما وقع فيهما من الغلط الكثير للأمم التي كانت تعبدهما ، ولما وقع للجهال من اعتقاد تأثيرهما .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتموه : هذه الرؤية رؤية عيان حقيقة ، لا رؤية علم ; بدليل : أنه رأى في الجنة والنار أقواما بأعيانهم ، ونعيما ، وقطفا من عنب ، وتناوله ، وغير ذلك . ولا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها ، لا سيما على مذاهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خلقتا ووجدتا ; [ ص: 554 ] كما دل عليه الكتاب والسنة ، وذلك أنه راجع إلى أن الله - تعالى - خلق لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إدراكا خاصا به ، أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما ، كما قد خلق له إدراكا لبيت المقدس ، فطفق يخبرهم عن آياته ، وهو ينظر إليه . ويجوز أن يقال : إن الله - تعالى - مثل له الجنة والنار ، وصورهما له في عرض الحائط ; كما تتمثل صور المرئيات في المرآة ، ويعتضد هذا بما رواه البخاري من حديث أنس في غير حديث الكسوف ، قال - صلى الله عليه وسلم - : لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار متمثلتين في قبلة هذا الجدار ، وفي لفظ آخر : عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي ، وقال فيه مسلم : إني صورت لي الجنة والنار ، فرأيتهما دون هذا الحائط ، ولا يستبعد هذا من حيث : إن الانطباع في المرآة إنما هو في الأجسام الصقيلة ; لأنا نقول : إن ذلك شرط عادي لا عقلي ، ويجوز أن تنخرق العادة وخصوصا في مدة النبوة ، ولو سلم أن تلك الشروط عقلية ، فيجوز أن تكون تلك الأمور موجودة في جسم الحائط ، ولا يدرك ذلك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقطف الثمرة : ما يقطف منها ; أي : يقطع ويجتنى ، وهو هنا عنقود من العنب ; كما قد جاء مفسرا في الرواية الأخرى . ويحطم ; أي : يكسر بعضها على بعض كما يفعل البحر . والحطم : الكسر ، ويحتمل أن يريد بذلك : أن بعضها يأكل بعضا ، وبذلك سميت جهنم : الحطمة . والرجل الحطمة : الأكول .

[ ص: 555 ] وابن لحي : اسمه عمرو ، ولحي أبوه ، ابن قمعة بن إلياس ، وهو الذي كناه في الحديث الآخر بأبي ثمامة ، وسماه : بـ عمرو بن مالك . ولحي : لقب مالك ، وقد جاء في رواية أخرى : عمرو بن عامر الخزاعي . والله أعلم . وكان عمرو هذا أول من غير دين إسماعيل ، فنصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ; فيما ذكر ابن إسحاق ، وهو الذي عنى الله بقوله : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون [ المائدة : 103]

وقد اختلف في تفسير هذه الأشياء ، فالسائبة : الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر ، سيبت فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها ، ثم خلي سبيلها مع أمها على حكمها ، وهي البحيرة بنت السائبة ، وسميت بذلك ; لأنها بحرت أذنها ; أي : شقت شقا واسعا ، وهذا قول ابن إسحاق . وقال غيره : السائبة : هي التي ينذرها الرجل أن يسيبها إن برأ من مرضه ، أو أصاب أمرا يطلبه ، فإذا كان ذلك أسابها فسابت ، لا ينتفع بها .

قال ابن إسحاق : والوصيلة : الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر ، قالوا : وصلت ، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث ، إلا أن يموت شيء منها فيشترك فيه ذكورهم وإناثهم ، وقال كثير من أهل اللغة : إن الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم ، وإذا ولدت ذكرا وأنثى لم يذبحوا الذكر ، وقالوا : وصلت أخاها ، فيسيبون أخاها ولا ينتفعون به .

والحامي : الفحل إذا ركب ولد ولده ، وقيل : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ; قالوا : حمى ظهره ، فلا يركب ، ولا ينتفع به ، ولا يمنع من ماء ولا كلأ .

[ ص: 556 ] وقوله : بعث مناديا : الصلاة جامعة ، فاجتمعوا ; أي : ينادي ، أو يقول ذلك ، ولهذا الحديث استحسن الشافعي أن يقال ذلك في الخسوف . وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة ; إذ قال : لا يجتمع لها ، والكل متفقون على أنه لا يؤذن لها ولا يقام .

وقوله : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاة الخسوف بالقراءة ; أخذ بظاهر هذا جماعة من السلف ومحمد بن الحسن وأبو يوسف وأحمد وإسحاق وفقهاء الحديث ، ورواه معن والواقدي عن مالك ; فقالوا : يجهر بها في صلاة كسوف الشمس ، ومشهور قول مالك : الإسرار فيها ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والليث وسائر أصحاب الرأي ; متمسكين بقول ابن عباس : أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيها نحو سورة البقرة ، قالوا : ولو جهر لعلم ما قرأ ، وبما خرجه النسائي من حديث سمرة بن جندب ، ووصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف قال : فصلى ، فقام كأطول قيام قام بنا في الصلاة قط ، ما نسمع له صوتا . . . ، وذكر الحديث . وتأولوا الحديث الأول على أنه كان في خسوف القمر بالليل ، وخير الطبري بين الجهر والإسرار ، فأعمل الحديثين .

وقوله : يا أمة محمد ! إن من أحد أغير من الله : إن نافية بمعنى ما ، ومن زائدة على اسم إن . وأغير بالنصب : خبر إن النافية ، فإنها تعمل عمل ما عند الحجازيين ، وعلى التميمية : هو مرفوع على أنه خبر المبتدأ الذي هو أحد .

[ ص: 557 ] والغيرة في حقنا راجعة إلى تغير وانزعاج وهيجان يلحق الغيران عندما ينال شيء من حرمه أو محبوباته ; فعمل على صيانتهم ومنعهم . وهذا التغير على الله محال ; هو منزه عن كل تغير ونقص ، لكن لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم ، وزجر القاصد إليهم ; أطلق ذلك على الله - تعالى - ; إذ قد زجر وذم ونصب الحدود ، وتوعد بالعقاب الشديد من تعرض لشيء من محارمه ، وهذا من التجوز ، ومن باب تسمية الشيء باسم ما يترتب عليه ، وقد قررنا نحو هذا المعنى في كتاب الإيمان .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا : يعني ما يعلم هو من أمور الآخرة وشدة أهوالها ، ومما أعد في النار من عذابها وأنكالها ، ومما أعد في الجنة من نعيمها وثوابها ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد كان رأى كل ذلك مشاهدة وتحقيقا ، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان ، قليل الضحك ; جله التبسم .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ألا هل بلغت ؟ يعني : ما أمر به بتبليغه من الإنذار والتحذير والتنزيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية