المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1557 (7) باب

الأمر بغسل الميت وكيفيته

[ 807 ] عن أم عطية قالت : دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته ، فقال : اغسلنها ثلاثا أو خمسا ، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ، بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور ، فإذا فرغتن فآذنني . فلما فرغنا آذناه ، فألقى إلينا حقوه فقال : أشعرنها إياه .

وفي رواية قالت : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال : اغسلنها . . . الحديث .

وفي رواية قال : اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا ، أو أكثر من ذلك .

وقالت أم عطية : مشطناها ثلاثة قرون .

وفي رواية : قرنيها وناصيتها .

وفي أخرى قال : ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها .

رواه أحمد (6 \ 407 و 408) ، والبخاري (1352) ، ومسلم (939) (36 و 39 و 40 و 41) ، وأبو داود (3142 - 3146) ، والترمذي (990) ، والنسائي (4 \ 28) ، وابن ماجه (1457) .


(7) ومن باب : الأمر بغسل الميت

قوله صلى الله عليه وسلم " اغسلنها ثلاثا أو خمسا ، أو أكثر من ذلك إن رأيتن " ، لا خلاف في أن غسل الميت مشروع ومعمول به في الشريعة ، لكن اختلف في حكمه ; فقيل الوجوب ، وقيل سنة مؤكدة ، والقولان في المذهب ، وسبب الخلاف فيه هو أن هذا الأمر هل المقصود به بيان حكم الغسل فيكون واجبا ؟ أو المقصود به تعليم كيفية الغسل فلا يكون فيه ما يدل على الوجوب ؟ وقد قال بعض أصحابنا : إن قوله في هذا " إن رأيتن ذلك " يقتضي إخراج ظاهر الأمر بالغسل عن الوجوب ; لأنه قد فوضه إلى نظرهن ، ورد هذا التقييد إلى الأمر بالغسل ، وهذا فيه بعد ، بل السابق للفهم عود هذا الشرط إلى الأقرب له وهو " أكثر من ذلك " ، أو إلى التخيير في الأعداد السابقة ، والأول أظهر . والظاهر من هذا الأمر أنه أمر تعليم ، ولم يقصد به تقعيد قاعدة حكم الغسل فلا يتمسك بظاهره ، فالأولى أن غسل الميت سنة ثابتة نقلت بالعمل ، والله تعالى أعلم .

وهذا الحديث يقتضي استحباب الأوتار في غسل الميت ، وأن أقل ذلك [ ص: 593 ] ثلاث ، وليس لذلك عند مالك وبعض أصحابه حد لازم يقتصر عليه ، لكنه ينقى ويغسل جميعه ، وإليه يرجع قول الشافعي وغيره من العلماء . وصرف الأمر إلى اجتهاد الغاسل إنما هو بحسب ما يراه زيادة في الإنقاء والاحتياج إلى ذلك ، وكذلك إذا خرج من الميت شيء بعد غسله أعاد غسله ، وقد جاء في الرواية الأخرى " أو سبعا ، أو أكثر من ذلك " ، قال أبو عمر بن عبد البر : لا نعلم أحدا من العلماء قال بمجاوزة سبع غسلات في غسل الميت . قال أبو الفضل عياض : وإن خرج منه شيء بعد السبع غسل الموضع وحده ، قال مالك وأبو حنيفة وجماعة من المالكية ، قالوا : وحكمه حكم الجنب إذا أحدث بعد غسله . ومنهم من قال : يوضأ إذا خرج منه شيء بعد الثالثة .

وقوله " بماء وسدر " احتج بهذا ابن شعبان ومن يجيز غسله بماء الورد وبالماء المضاف ، قال ابن الفرضي : وإنما يكره غسل الميت بماء القرنفل وماء الورد من ناحية السرف ، وإلا فهو جائز ; إذ لا يغسل ليطهر ، بل هو إكرام للقاء الملكين . والجمهور على أن غسله بذلك لا يجوز ، وأن ذلك لا يفهم من الحديث ، لكنه عندهم محمول على أن يغسل أولا بالماء القراح فتتم الطهارة ، وفي الثانية بالماء والسدر للتنظيف ، ثم قال في الثالثة بالماء والكافور للتطييب والتجفيف . قال عياض : وهذا حقيقة مذهب مالك ، وحكاه ابن حبيب وقال : بل يبدأ بالماء والسدر ، ثم بالماء القراح . وقال أبو قلابة مثله ، لكنه قال : ويحسب هذا غسلة واحدة . وذهب أحمد إلى أن الغسلات كلها تكون بالماء والسدر على ظاهر الحديث .

قلت : ويمكن أن يجعل السدر في الماء ، ويخضخض حتى تخرج رغوته ، ثم يدلك جسد الميت ليبالغ في إزالة أدرانه ، ثم يصب الماء عليه ، كما يحتال في قلع ما يعسر قلعه من الأدران بالغاسول ، ويكون هذا في أول غسله كما قاله [ ص: 594 ] ابن حبيب ، والله أعلم . فإن لم يوجد سدر فغيره من الغاسول مما يتنزل منزلته يكفي عند كافة العلماء ، وروي عن عائشة - رضي الله عنها - في غسل رأس الميت بالخطمي نهي .

وقوله " واجعلن في الآخرة كافورا " ; يعني في الغسلة الآخرة ، وعلى هذا جماعة العلماء إلا أبا حنيفة والأوزاعي ، فإنهما رأيا أن ذلك في الحنوط لا في الغسل . وفائدة تخصيص الكافور تبريده وتجفيفه ومنعه سرعة التغير وقوة رائحته وسطوعها ، فإن عدم قام غيره من الطيب مقامه ، وهذا كله إكرام للميت وإعداد له للقاء الملائكة الكرام ، والله تعالى أعلم .

وقوله " فألقى إلينا حقوه فقال : أشعرنها إياه " ، الحقو - بالفتح - هو المعروف من كلام العرب ، وقالته هذيل بكسر الحاء ، وأصله معقد الإزار ، وجمعه أحق وأحقاء وحقي ; كدلو وأدلاء ودلي . وهو في هذا الحديث الإزار ، وهو المئزر الذي يشد على الحقو ، فسمي باسم الحقو على التوسع ، كما تقول العرب : عذت بحقو فلان - أي استجرت به .

و " أشعرنها " ; أي : اجعلنه مما يلي جسدها ، والشعار الثوب الذي يلي الجسد ، والدثار الذي يلي الشعار ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار : أنتم شعار ، والناس دثار - كناية عن القرب والاتصال بهم .

واختلف في كيفية جعل هذا الإزار عليها ; فقال ابن وهب : يجعل لها مئزرا . وقال ابن القاسم : تلفف فيه ولا تؤزر - وهو قول ابن سيرين [ ص: 595 ] وابن جريج . وقال النخعي : الحقو فوق الدرع . وقال ابن علية : الحقو النطاق ، سبتية طويلة يجمع بها فخذاها تحصينا لها ، ثم تلف على عجزها . وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لتنالها بركة ثوبه ، وفيه جواز تكفين النساء في ثياب الرجال .

وقول أم عطية " مشطناها ثلاثة قرون " ، قال بهذا الشافعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب ، وقال الأوزاعي : لا يجب المشط . ولم يعرف ابن القاسم الضفر ، وقال : يلف . وقال أبو حنيفة : يكره ذلك ، ولكن ترسله الغاسلة غير مضفور بين ثدييها دون تسريح . وسبب هذا الخلاف هو أن الفعل الذي فعلته أم عطية هل هي مستندة في ذلك إلى إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو هو شيء رأته ففعلته استحسانا ووافقتها من كان هناك من النساء ولم يعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وكلاهما محتمل ، والأصل أن لا يفعل في الميت شيء من جنس القرب إلا بإذن من الشرع محقق ، ولم يرد ذلك مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .

وقولها " قرنيها وناصيتها " ، وفي البخاري " فألقيناها خلفها " ، قال أبو الفرج بن الجوزي : وعندنا أن السنة أن يضفر شعر الميتة ثلاثة قرون ويلقى خلفها .

[ ص: 596 ] وقوله “ ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " يدل على استحباب وضوء الميت ، وهو حجة لنا وللشافعي على أبي حنيفة فإنه لا يراه . واختلف عندنا متى يوضأ ؟ هل في المرة الأولى أو في الثانية أو فيهما ؟ والابتداء بالميامن على أصل الشريعة في استحباب ذلك في العبادات ، وقد أخذ الحسن من هذا الحديث أن النساء أحق بغسل المرأة من الزوج ، وأنه لا يغسلها إلا عند عدمهن . والجمهور من الفقهاء وأئمة الفتوى على خلافه ، وأنه أحق . وذهب الشعبي والثوري وأصحاب الرأي إلى أنه لا يغسلها جملة ، وأجمعوا على غسل الزوجة زوجها ، وجمهورهم على أنه أحق من الأولياء . وقال سحنون : الأولياء أحق . ولم ينبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم عطية على الغسل من غسل الميت ، وهو موضع تعليم ، فلو كان واجبا لبينه هنا . وقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعا : من غسل ميتا فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ . قال : اختلف في إسناد هذا الحديث ، وحمله الفقهاء على الاستحباب لا على الوجوب . واختلف في المقصود بهذا الغسل ; فقيل : ليكون على يقين من طهارة جسده لما يخاف أن يطير عليه من رشاش غسل الميت . وقيل : لأنه إذا عزم على الاغتسال كان أبلغ في غسله ، وأحرى ألا يتحفظ مما يصيبه ، فيبالغ في إنقائه وتنظيفه . قال الخطابي : [ ص: 597 ] لا أعلم أحدا قال بوجوب الغسل منه . وقال إسحاق : أما الوضوء فلا بد منه - ونحوه قال أحمد .

وهذه البنت التي ماتت للنبي - صلى الله عليه وسلم - هي زينب على ما جاء في الأم ، وقيل : هي أم كلثوم - على ما جاء في كتاب أبي داود من حديث ليلى بنت قانف الثقفية .

التالي السابق


الخدمات العلمية