المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
(5) باب

الإسناد من الدين

- قال محمد بن سيرين : إن هذا العلم دين ; فانظروا عمن تأخذون دينكم .

- وقال : لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم : فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم .

- وقال عبد الله بن المبارك : الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء .

- وقال : بيننا وبين القوم القوائم ، يعني : الإسناد .

- وعن مجاهد ، قال : جاء بشير العدوي إلى ابن عباس ، فجعل يحدث ويقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ، ولا ينظر إليه ، فقال : يا ابن عباس ! ما لي لا أراك تسمع لحديثي ؟! أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع ؟! فقال ابن عباس : إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول ، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف .

- وفي رواية : فقال ابن عباس : إنا كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يكذب عليه ، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه .

الآثار الواردة في هذا الباب انظرها في صحيح مسلم ( 1 \ 13 – 15 المقدمة )
(5) ومن باب الإسناد من الدين

أي : من أصوله ; لأنه لما كان مرجع الدين إلى الكتاب والسنة ، والسنة لا تؤخذ عن كل أحد : تعين النظر في حال النقلة ، واتصال روايتهم ، ولولا ذلك ، لاختلط الصادق بالكاذب ، والحق بالباطل ، ولما وجب الفرق بينهما ، وجب النظر في الأسانيد . وهذا الذي قاله ابن المبارك ، قد قاله أنس بن مالك ، وأبو هريرة ، ونافع مولى ابن عمر ، وغيرهم ، وهو أمر واضح الوجوب لا يختلف فيه . وقال عقبة بن نافع [ ص: 122 ] لبنيه : يا بني ، لا تقبلوا الحديث إلا من ثقة . وقال ابن معين : كان فيما أوصى به صهيب بنيه أن قال : يا بني ، لا تقبلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من ثقة . وقال ابن عون : لا تأخذوا العلم إلا ممن يشهد له بالطلب . وقال سليمان بن موسى : لا يؤخذ العلم من صحفي ، وقال أيضا : قلت لطاووس : إن فلانا حدثني بكذا وكذا ، فقال : إن كان مثبتا ، فخذ عنه .

و (قوله : " لم يكونوا يسألون عن الإسناد ") ; يعني بذلك : من أدرك من الصحابة وكبراء التابعين . أما الصحابة فلا فرق بين إسنادهم وإرسالهم ; إذ الكل عدول على مذهب أهل الحق ، كما أوضحناه في الأصول ، وكذلك : كل من خالف في قبول مراسيل غير الصحابة وافق على قبول مراسيل الصحابة . وأما كبراء التابعين ومتقدموهم فالظاهر من حالهم أنهم يحدثون عن الصحابة إذا أرسلوا ، فتقبل مراسيلهم ، ولا ينبغي أن يختلف فيها ; لأن المسكوت عنه صحابي ، وهم عدول ، وهؤلاء التابعون هم : كعروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، ونافع مولى ابن عمر ، ومحمد بن سيرين ، وغيرهم ممن هو في طبقتهم .

وأما من تأخر عنهم ممن حدث عن متأخري الصحابة وعن التابعين ; فذلك محل الخلاف ، والصواب : قبول المراسيل إذا كان المرسل مشهور المذهب في الجرح والتعديل ، وكان لا يحدث إلا عن العدول ; كما أوضحناه في الأصول .

و (قوله : " فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ") هذه الفتنة يعني بها [ ص: 123 ] - والله أعلم - : فتنة قتل عثمان ، وفتنة خروج الخوارج على علي ومعاوية ; فإنهم كفروهما حتى استحلوا الدماء والأموال .

وقد اختلف في تكفير هؤلاء ، ولا يشك في أن من كفرهم لم يقبل حديثهم ، ومن لم يكفرهم اختلفوا في قبول حديثهم ; كما بيناه فيما تقدم . فيعني بذلك - والله أعلم - : أن قتلة عثمان والخوارج لما كانوا فساقا قطعا ، واختلطت أخبارهم بأخبار من لم يكن منهم ، وجب أن يبحث عن أخبارهم فترد ، وعن أخبار غيرهم ممن ليس منهم فتقبل ، ثم يجري الحكم من غيرهم من أهل البدع كذلك .

ولا يظن أحد له فهم أنه يعني بالفتنة فتنة علي وعائشة ومعاوية ; إذ لا يصح أن يقال في أحد منهم : مبتدع ، ولا فاسق ، بل كل منهم مجتهد عمل على حسب ظنه ، وهم في ذلك على ما أجمع عليه المسلمون في المجتهدين من القاعدة المعلومة ، وهي أن كل مجتهد مأجور غير مأثوم ; على ما مهدناه في الأصول .

و (قوله : " جاء بشير العدوي إلى ابن عباس ") بشير : بضم الباء ، وفتح الشين ، وياء التصغير بعدها ، وهو عدوي بصري يكنى أبا أيوب ، حدث عن أبي ذر ، وأبي هريرة ، وأبي الدرداء ، وحدث عنه : عبد الله بن بديل ، وطلق بن حبيب ، والعلاء بن زياد .

و (قوله : " فجعل لا يأذن لحديثه ") أي : لا يصغي إليه بأذنه ، ولا يستمعه ; ومنه قوله تعالى : وأذنت لربها وحقت [ الانشقاق : 2 ] .

[ ص: 124 ] و (قوله : " كنا إذا سمعنا رجلا يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه بآذاننا ") أي : قبلنا منه ، وأخذنا عنه .

هذا الذي قاله ابن عباس يشهد بصحة ما تأولنا عليه قول ابن سيرين ; فإن ابن عباس كان في أول مرة يحدث عن الصحابة ، ويأخذ عنهم ; لأن سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قليلا ; لصغر سنه ، فكان حاله مع الصحابة كما قال ،- فلما تلاحق التابعون وحدثوا ، وظهر له ما يوجب الريبة ، لم يأخذ عنهم ; كما فعل مع بشير العدوي .

و (قوله : " فلما ركب الناس الصعب والذلول ، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف ") هذا مثل ، وأصله في الإبل ، ومعناه : أن الناس تسامحوا في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واجترؤوا عليه ; فتحدثوا بالمرضي عنه ، الذي مثله بالذلول من الإبل ، وبالمنكر منه الممثل بالصعب من الإبل .

[ ص: 125 ] و (قوله : " لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف ") أي : إلا ما نعرف ثقة نقلته ، وصحة مخرجه .

و (قوله : " إنا كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ") الصحيح في : نحدث بضم النون ، وفتح الدال مشددة ; مبنيا للمفعول ; ويؤيده : قوله في الرواية الأخرى : كنا إذا سمعنا رجلا يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا . وكذلك وجدته مقيدا بخط من يعتمد على علمه وتقييده ، وقد وجدته في بعض النسخ بكسر الدال ، وفيه بعد ، ولعله لا يصح .

التالي السابق


الخدمات العلمية