المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
138 (31) باب

ركوب الكبائر غير مخرج للمؤمن من إيمانه

[ 74 ] عن أبي ذر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; أنه قال : أتاني جبريل - عليه السلام - ، فبشرني : أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى ، وإن سرق .

وفي رواية : قالها ثلاثا ، ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر ، قال : فخرج أبو ذر وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر .


رواه أحمد ( 5 \ 61 ) ، والبخاري ( 2388 ) ، ومسلم ( 94 ) ، وأبو داود ( 2646 ) .


[ ص: 291 ] (31) ومن باب ركوب الكبائر غير مخرج للمؤمن من إيمانه

(قوله - عليه الصلاة والسلام - : " أتاني جبريل ، فبشرني : أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ") يدل على شدة تهمم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر أمته ، وتعلق قلبه بما ينجيهم ، وخوفه عليهم ; ولذلك سكن جبريل قلبه بهذه البشرى . وهذا نحو من حديث عمرو بن العاص الذي يأتي بعد هذا ، الذي قال فيه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول إبراهيم - عليه السلام - : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم [ إبراهيم : 36 ] ، وقول عيسى : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [ المائدة : 118 ] . فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وبكى ، وقال : رب ، أمتي أمتي ، فنزل عليه جبريل ، فقال له مخبرا عن الله تعالى : إن الله سيرضيك في أمتك ولا يسوؤك . وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - مقتضى ما جبله الله تعالى عليه من الخلق الكريم ، وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم .

و (قوله : " لا يشرك بالله شيئا ") معناه بحكم أصل الوضع : ألا يتخذ معه شريكا في الألوهية ، ولا في الخلق ; كما قدمناه . لكن هذا القول قد صار بحكم العرف : عبارة عن الإيمان الشرعي ; ألا ترى أن من وحد الله تعالى ولم يؤمن [ ص: 292 ] بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، لم ينفعه إيمانه بالله تعالى ، ولا توحيده ، وكان من الكافرين بالإجماع القطعي .

و (قوله : " على رغم أنف أبي ذر ") رويناه بفتح الراء ، وهي إحدى لغاته ; فإنه يقال بفتحها وضمها وكسرها ، وهو مصدر رغم ، بفتح الغين وكسرها ، وهو مأخوذ من الرغام ، وهو التراب ، يقال : أرغم الله أنفه ، أي : ألصقه بالتراب ، ورغم أنفي لله ، أي : خضع وذل ; فكأنه لصق بالتراب .

والمراغمة : المغاضبة ، والمراغم : المذهب والمهرب ، ومنه : يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة [ النساء : 100 ] . وإنما واجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر بهذه الكلمات ; لما فهم عنه من استبعاده دخول من زنى ومن سرق الجنة ، وكان وقع له هذا الاستبعاد بسبب ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن . . الحديث ، ومما هو في معناه ، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الوهم وأنكره ، وكان هذا الحديث نصا في الرد على المكفرة بالكبائر ; كما تقدم . وخروج أبي ذر قائلا : وإن رغم أنف أبي ذر ، رجوع منه عما كان وقع له من ذلك ، وانقياد للحق لما تبين له .

التالي السابق


الخدمات العلمية