المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1628 [ 849 e] وعن أبي سعيد الخدري ; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق الحديث .

رواه أحمد (3 \ 44-45)، والبخاري (1447)، ومسلم (979)، وأبو داود (1558)، والنسائي (5 \ 17) .


[ ص: 5 ] (9)

كتاب الزكاة

قد تقدم اشتقاق الزكاة في كتاب الإيمان ، وتسمى أيضا : صدقة ، مأخوذة من الصدق ; إذ هي دليل على صحة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وقد تقدم استيفاء ذلك المعنى في كتاب الطهارة .

وشرعها الله تعالى مواساة للفقراء ، وتطهيرا للأغنياء من البخل . وإنما تجب على من كان له من المال ما له بال . وأقل ذلك: النصاب على ما يأتي بيانه .

ثم موضوعها : الأموال النامية ; أي : الصالحة للنماء ، وهي : العين ، والحرث والماشية ، ثم هذه الأصول منها ما ينمي بنفسه ، كالحرث والماشية ; ومنها ما ينمو بتغيير عينه وتقليبه ، كالعين . والإجماع منعقد على تعلق الزكاة بأعيان هذه المسميات . فأما تعلق الزكاة بما سواها من العروض والديون ; ففيها للفقهاء ثلاثة أقوال :

فأبو حنيفة : يوجبها على الإطلاق ، وداود يسقطها في ذلك ، ومالك : يوجبها في عروض التجارة ، وفي الديون تفصيل يعرف في كتب فقهه ، وستأتي حجة كل فريق في تضاعيف الكلام .

(1) ومن باب: ما تجب فيه الزكاة ، وكم مقدار ما يخرج (قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ) ، أواق: جمع [ ص: 6 ] أوقية . قال أبو عبيد : هي اسم لوزن مبلغه أربعون درهما كيلا . قال ابن السكيت : الأوقية - ضم الهمزة وتشديد الياء - ، وجمعها أواق . ولا يقال: وقية - بفتح الواو - من غير همزة . وحكى اللحياني أنه يقال : وتجمع : وقايا .

ودرهم الكيل زنته خمسون حبة وخمسا حبة ، وسمي درهم الكيل ; لأنه بتكييل عبد الملك بن مروان ; أي : بتقديره وتحقيقه ، وذلك أن الدراهم التي كان الناس يتعاملون بها على وجه الدهر نوعان :

نوع عليه نقش فارس .

ونوع عليه نقش الروم .

أحد النوعين يقال له : البغلية ، وهي السود ، الدرهم منها ثمانية دوانق ، والأخرى يقال لها : الطبرية ، وهي العتق ، الدرهم منها من أربعة دوانق ، فجاء الإسلام وهي كذلك ، فكان الناس يتعاملون بها مجموعة على الشطر من هذه والشطر من هذه لدى الإطلاق ; ما لم يعينوا بالنص أحد النوعين .

وكذلك كانوا يؤدون الزكاة في أول الإسلام ; باعتبار مائة من هذه ، ومائة من هذه في النصاب . ذكر هذا أبو عبيد وغيره ، فلما كان عبد الملك بن مروان تحرج من نقوشها ، فضرب الدرهم بنقش الإسلام بعد أن تحرى معاملتهم الإطلاقية ، فجمع بين درهم بغلي من ثمانية دوانق ، وبين درهم طبري من أربعة دوانق ، فكان اثني عشر دانقا ، فقسمها نصفين ، فضرب الدرهم من نصفها وهو ستة دوانق ، والدانق : ثمان حبات ، وثلث حبة ، وثلثا خمس حبة من الشعير المطلق .

واتفق المسلمون على اعتبار درهم الكيل المذكور ; لموافقته ما كان معتبرا من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى أن ضربت ، وأن نصاب الزكاة مائتا درهم من دراهم الكيل .

[ ص: 7 ] وهي الخمسة الأواقي المذكورة في الحديث . ولم يخالفه في ذلك إلا من زعم أن أهل كل بلد يعتبرون النصاب بما يجري عندهم من الدراهم ، صغرت أو كبرت . وهو مذهب ابن حبيب الأندلسي .

والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، ويعضده قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الوزن على وزن أهل مكة ) ، وهو حديث صحيح . وقد تقدم أن هذا المقدار المذكور هو الذي كان [على] وزن أهل مكة ، في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وأما دينار الذهب: فهو أربعة وعشرون قيراطا . والقيراط: ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعه اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه .

والورق : بكسر الراء على الأصل ككبد " ، وبإسكانها تخفيف ، كما يقال : كبد وفخذ ، وهي الدراهم خاصة . ويقال عليها أيضا : الرقة - بتخفيف القاف .

ومنه قوله : (في الرقة ربع العشر) . قال أبو بكر : جمعها : رقات ورقون . ومنه قولهم : وجدان الرقين يغطي أفن الأفين ; أي : وجدان الدراهم يغطي عيب المعيب .

قال الهروي : يقال : رجل وارق : كثير الورق .

وقال بعضهم : لا يقال : لغير الدراهم ورق ، ولا رقة . وإنما يقال لها : فضة . وأما الفقهاء : فالفضة والورق عندهم سواء . وكذلك قال ابن قتيبة : إن الرقة والورق : الفضة ، مسكوكها ، وغير مسكوكها .

وقوله: ( ليس فيما دون ) ; ظاهره أنه إذا نقص من النصاب ولو أقل ما [ ص: 8 ] ينطلق عليه اسم النقص ، لم تجب فيه زكاة ، وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك : إذا كان النقصان يسيرا لم تسقط الزكاة .

واختلف أصحابه في مقدار اليسير :

فمنهم من قال : هو ما لا يتشاح فيه في العادة .

ومنهم من فسره : بأنه المقدار الذي تختلف فيه الموازين . وهذا عندهم بشرط جوازها بجواز الوازنة .

وحكي عن عمر بن عبد العزيز : أن نصاب الدراهم إن نقص ثلاثة دراهم ، ونصاب الذهب إن نقص ثلث دينار ، لم تسقط الزكاة .

والظاهر مع أبي حنيفة ، والمعنى مع أصحابنا .

و" دون " في كل مواضع هذا الحديث بمعنى : أقل ; أي : ليس في أقل من خمس صدقة ، لا أنه نفى عن غير الخمس الصدقة ، كما زعم بعضهم في قوله : (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ; أنها بمعنى غير .

وقوله : ( خمس ذود ) : الرواية المشهورة فيه على الإضافة ، ومنهم من يرويه بالتنوين على البدل . والصحيح في الرواية إسقاط الهاء من " خمس " على التأنيث . وأثبتها بعضهم على التذكير ، وهذا على الخلاف في " الذود " ، هل يطلق على الإناث أو على الذكور ؟ على ما يأتي .

وأصل وضع الذود إنما هو مصدر ، من ذاد يذود ، إذا دفع شيئا ، فكأن من كان عنده دفع عن نفسه معرة الفقر ، أو شدة الفاقة والحاجة . واختلف اللغويون فيه :

فقال أبو عبيد : هو ما بين الثنتين إلى التسع ، ومن الإناث دون الذكور . ونحوه عند سيبويه في التأنيث ، فقال : يقال : ثلاث ذود ; لأن الذود أنثى ، وليس باسم كسر عليه مذكره .

وقال الأصمعي : الذود : ما بين الثلاث إلى العشر . والضبة : خمس أو ست ، والصرمة : ما بين العشر إلى العشرين ، والفكرة : ما بين العشرين إلى الثلاثين ، والهجمة : ما بين الستين إلى السبعين ، والهنيدة : مائة ، والخطر : نحو المائتين ، والعرج : من خمسمائة إلى الألف . قال غيره : وهند - غير مصغر - : مائتان ، وأمامة : ثلاثمائة . وأنكر [ ص: 9 ] ابن قتيبة أن يراد بالذود: الواحد ، وقال : لا يصح أن يقال : خمس ذود ، كما لا يقال : خمس ثوب .

وقال القاضي عياض : الذود : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، ولا واحد له من لفظه ، إنما يقال في الواحد : بعير ، كما يقال للواحدة من النساء : امرأة . وقال غيره : خمس ذود ، كما يقال خمس أبعرة ، وخمسة جمال ، وخمس نوق . وقد نص بعض اللغويين: على أن " الذود " يكون وحدا .

وقال أبو حاتم : تركوا القياس في الجمع فقالوا : ثلاث ذود لثلاث من الإبل ، وأربع ذود ، وعشر ذود على غير قياس ، كما قالوا : ثلاثمائة وأربعمائة ، والقياس : مائتين ومئات ، ولا يكاد يقولونه .

قلت : وهذا صريح بأن الذود واحد في لفظه ، والأشهر ما قاله المتقدمون: إنه لا يقال على الواحد ، والله أعلم .

وقوله : (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ; الأوسق : جمع قلة الوسق ، كفلس وأفلس ، ويقال : أوساق : جمع وسق - بكسر الواو - ، كما يقال : عدل وأعدال .

واختلفوا في اشتقاقه ، فقال شمر : كل شيء حملته فقد وسقته ، يقال : ما أفعل كذا ما وسقت عيني الماء : أي : ما حملته . وقال غيره : الوسق : ضمك الشيء إلى الشيء وجمعه ، ومنه قوله تعالى : والليل وما وسق ; أي : جمع وضم ، يقال للذي يجمع الإبل : واسق ، وللإبل نفسها : وسقت ، وقد وسقتها فاستوسقت ; أي : اجتمعت وانضمت .

وقال الخطابي : الوسق : تمام حمل الدواب النقالة ، وهو ستون صاعا . قال غيره : والصاع : أربعة أمداد ، والمد : رطل وثلث بالعراقي . والرطل العراقي : هو اثنا عشر أوقية . والأوقية هنا : [ ص: 10 ] هي زنة عشرة دراهم وثلثي درهم ، من دراهم الكيل ، فمبلغ زنة الرطل من دراهم الكيل : مائة درهم وثمانية وعشرون درهما .

ولم يجر في هذا الحديث ذكر لنصاب الذهب ، ولا وقع في " الصحيحين " ، ولا ما يدل على اشتراط الحول في الزكاة .

وقد ذكر أبو داود ما يدل عليهما ، فروى بإسناد صحيح إلى أبي إسحاق السبيعي ، عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا كانت لك مائتا درهم ، وحال عليها الحول ، ففيها خمسة دراهم ، وليس عليك شيء - يعني: في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا ، فإذا كان لك عشرون دينارا ، وحال عليها الحول ، ففيها نصف دينار ، فما زاد فبحساب ذلك ) ، قال : ولا أدري أعلي يقول " بحساب ذلك " ، أو رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول " .

قلت : هذا الحديث غاية ما قيل فيه : أن جرير بن حازم رواه عن أبي إسحاق ، وقرن فيه بين عاصم بن ضمرة ، وهو ثقة ، وبين الحارث الأعور ، وهو كذاب . ورواه جماعة من الأئمة عن أبي إسحاق ، عن عاصم موقوفا على علي ، فقال من رد ذلك الحديث : لعل جريرا سمعه من أبي إسحاق عن عاصم موقوفا ، وسمعه عنه الحارث في هذا الحديث مسندا ، ولذلك قرن بينهما ، وكأن الإسناد متلقى عن الحارث .

وهذا لا ينبغي أن يرد الخبر له ، لأنه وهم ، وظن غير محقق ، بل هو مردود ; لأن المعتمد ثقة جرير وأمانته ، وقد أخبر بأنه سمعه منهما في مساق [ ص: 11 ] واحد ، وظاهره : أنه تلقاه عن كل واحد منهما على نحو ما تلقاه عن الآخر ، فيعتمد على رواية الثقة ، وتلغى رواية غيره ، ولا يضره وقــف من وقــفه ، إذا كان الذي رفعه ثقة .

قال القاضي عياض : فأما نصاب الذهب فهو عشرون دينارا ، والمعول في تحديده على الإجماع ، وقد حكي فيه خلاف شاذ ، وورد فيه أيضا حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قلت : وأما نصاب الإبل والغنم ، فلم يخرج في كتاب مسلم من ذلك شيء . وقد خرج البخاري فيه كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق . وأما نصاب البقر فلم يقع في " الصحيحين " شيء من ذلك . وقد روى في ذلك النسائي عن مسروق ، عن معاذ بن جبل قال : لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنة ، ومن كل حالم دينارا ، أو عدله معافر . غير أنه منقطع ، لم يلق مسروق معاذا . وقد خرجه الترمذي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، ولم يسمع أبو عبيدة من أبيه . ورواه مالك عن طاوس ، عن معاذ من فعله موقوفا ، وطاوس لم يدرك معاذا .

وأحسن ما في الباب ما خرجه الدارقطني ، عن الشعبي ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( في كل أربعين من البقر مسنة ، وفي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة ) ، قال : هذا يروى مرسلا عن الشعبي ، وهو الصواب .

قال أبو محمد بن حزم : قد صح الإجماع المتيقن المقطوع به ، الذي [ ص: 12 ] لا اختلاف فيه : أن في كل خمسين بقرة: بقرة . فوجب الأخذ بهذا ، وما دون ذلك مختلف فيه ، ولا نص في إيجابه .

قلت : وحديث جابر وأبي سعيد يدلان: على أن ما نقص عن هذه النصب ليس فيه زكاة ، ولا خلاف في ذلك ، إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة وبعض السلف من أن الحب تخرج الزكاة من قليله وكثيره ، والحديثان حجتان عليهم .

وقال داود : كل ما يدخله الكيل فتراعى فيه الخمسة الأوسق ، وما عداه مما لا يوسق ، ففي قليله وكثيره الزكاة .

قال القاضي عياض : وأجمعوا على أن في عشرين دينارا الزكاة . ولا تجب في أقل منها ، إلا ما روي عن الحسن والزهري مما لم يتابعا عليه : أن لا صدقة في أقل من أربعين دينارا ، والأشهر عنهما ما روي عن الجماعة . وروي عن بعض السلف : أن الذهب إذا كانت قيمته مائتي درهم فيها الزكاة ، فإن نقصت عن ذلك فلا شيء فيه .

واتفقوا على أن ما زاد من الحب على خمسة أوسق ، أن الزكاة في قليله وكثيره ، ولا وقص فيه . واتفقوا على الأوقاص في المواشي .

واختلفوا في الذهب والفضة ، فذهب مالك والشافعي وبعض السلف والجمهور إلى أن لا وقص فيهما . وذهب أبو حنيفة وبعض الجماعة إلا أنه لا شيء فيما زاد على المائتي درهم حتى تبلغ أربعين ، ولا على العشرين دينارا حتى تبلغ أربعة دنانير ، فإذا زادت على ذلك ، ففي كل أربعين درهما درهم . وفي كل أربعة دنانير درهم ، ومعتمدهم في هذا: حديث ضعيف لا أصل له .

ومالك وجمهور علماء الأمصار يرون ضم الذهب والفضة على اختلاف بينهم : فمالك وجماعة يراعون الوزن ، والضم على الأجزاء لا على القيم ، وينزلون كل دينار منزلة عشرة دراهم على الصرف القديم . وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري يرون ضمها على القيمة في وقت الزكاة .

وقال الشافعي وداود وأبو ثور وأحمد : لا يضم منها شيء إلى شيء ، ويراعى نصاب كل واحد منهما بنفسه .

وذهب آخرون إلى [ ص: 13 ] أنه إنما يضم إذا كمل من أحدهما نصاب ، فيضم الآخر ، ويزكى الجميع .

التالي السابق


الخدمات العلمية