المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1649 [ 857 ] ومن حديث جابر قال : ( ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه ، إلا جاءه كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع ، يتبعه فاتحا فاه ، فإذا أتاه فر منه ، فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني ، فإذا رأى ألا بد منه ، سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل) .

وفيه : قال رجل : ما حق الإبل ؟ قال : ( حلبها على الماء ، وإعارة دلوها ، وإعارة فحلها ومنيحتها وحمل عليها في سبيل الله)

رواه أحمد (2 \ 321)، ومسلم (988) (27)، والنسائي (5 \ 27) .


وقوله في حديث جابر : ( ولا صاحب كنز ) ، قال الطبري : الكنز : كل شيء مجموع بعضه إلى بعض ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها . وقال ابن دريد : الكنز : كل شيء غمزته بيدك أو رجلك في وعاء أو أرض .

قلت : وأصل الكنز : الضم والجمع ، ولا يختص ذلك بالذهب والفضة ، ألا [ ص: 30 ] ترى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ألا أخبركم بخير ما يكنزه المرء : المرأة الصالحة) ; أي : يضمه لنفسه ويجمعه .

واختلف في المراد بالكنز في الآية ، فقال أكثرهم : هو كل مال وجبت فيه الزكاة ، فلم تؤد منه ، ولا أخرجت . وكل ما أخرجت زكاته فليس بكنز . وقيل : كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز ، وإن أديت زكاته . وقيل : هو ما فضل عن الحاجة . ولعل هذا كان في أول الإسلام عند ضيق الحال عليهم ، والقول الأول هو الصحيح ; بدليل هذا الحديث ، وبما خرجه أبو داود عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : والذين يكنزون الذهب والفضة قال : كبر ذلك على المسلمين ، فقال عمر رضي الله عنه - : أنا أفرج عنكم ، فانطلق ، فقال : يا نبي الله ! إنه كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث - فذكر كلمة - لتكون لمن بعدكم ، لتطيب لمن بعدكم) ، قال : فكبر عمر رضي الله عنه ، ثم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة ، إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته) .

وقوله : ( إلا جاء يوم القيامة كنزه شجاعا أقرع ) ، وفي أخرى : (إلا مثل) ; أي : صور له . وقيل : نصب وأقيم . من قولهم : مثل قائما ; أي : منتصبا . والشجاع من الحيات : هو الحية الذكر الذي يواثب الفارس والراجل ، ويقوم على ذنبه ، وربما بلغ رأس الفارس ، ويكون في الصحارى . وقيل : هو الثعبان . قال [ ص: 31 ] اللحياني : يقال للحية : شجاع . وثلاثة أشجعة ، ثم شجعان . والأقرع من الحيات : الذي تمعط رأسه وابيض من السم ، ومن الناس : الذي لا شعر له في رأسه [لتقرحه] .

وفي غير كتاب مسلم من الزيادة : (له زبيبتان) ، وهما الزبيبتان في جانبي فيه من السم ، ويكون مثلهما في شدقي الإنسان عند كثرة الكلام . وقيل : نكتتان على عينيه ، وما هو على هذه الصفة من الحيات هو أشد أذى . قال الداودي : وقيل : هما نابان يخرجان من فيه .

وقوله : ( فيناديه : خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني ) ; كذا وقع لنا فيما رأيناه من النسخ ، وفي الكلام خرم يتلفق بتقدير محذوف ، وهو : فيقول : فأنا عنه غني ، وحينئذ يلتئم الكلام ، فتأمله ، وكثيرا ما يحذف القول الذي للحكاية كقوله: إنما نطعمكم لوجه الله ; أي : يقولون : إنما .

وقوله : ( فإذا رأى أن لا بد منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل )

معنى سلك : أدخل . ويقضمها : يأكلها . يقال : قضمت الدابة شعيرها ، تقضمه ، والقضم بأطراف الأسنان ، والخضم: بالفم كله . وقيل : القضم : أكل اليابس ، والخضم : أكل الرطب ، ومنه قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تخضمون ونقضم والموعد الله .

وقوله : " ما حق الإبل ؟ فقال : (حلبها على الماء) إلخ . ظاهر هذا السؤال والجواب : أن هذا هو الحق المتوعد عليه فيما تقدم حين ذكر الإبل ، وأنه [ ص: 32 ] كل الحق ، مع أنه لم يتعرض فيه لذكر الزكاة .

وفي هذا الظاهر إشكال تزيله الرواية الأخرى التي ذكر فيها " من " التي هي للتبعيض ، بل وقد جاء في رواية أخرى مفسرا : (ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها) ، وكذلك قال في الغنم ، وكأن بعض الرواة أسقط في هذه الرواية " من " وهي مرادة ولا بد .

ثم ظاهره : أن هذه الخصال واجبة ، ولا قائل به مطلقا . ولعل هذا الحديث خرج على وقت الحاجة ، ووجوب المواساة ، وحال الضرورة ، كما كان في أول الإسلام . ويكون معنى هذا الحديث : أنه مهما تعينت هذه الحقوق ووجبت ، فلم تفعل ; تعلق بالممتنع من فعلها هذا الوعيد الشديد ، والله أعلم .

وقوله : ( حلبها يوم وردها ، وحلبها على الماء ) ، كل ذلك بسكون اللام على المصدر ، وهو الأصل في مصدر ما كان على " فعل يفعل " ، وقد جاء على " فعل " - بفتح العين - في الحلب ، فأما الحلب : اسم اللبن ، فبالفتح لا غير ، وليس هذا موضعه .

وخص حلب الإبل بموضع الماء ليكون أقرب على المحتاج والجائع ، فقد لا يقدر على الوصول لغير مواضع الماء .

والمنحة " : قال ابن دريد : أصلها أن يعطي الرجل الرجل ناقته يشرب لبنها ، أو شاة ، ثم صارت كل عطية منحة . قال الفراء : يقال : منحته أمنحه [وأمنحه] - بالضم والكسر - .

وقال أبو هريرة : " حق الإبل أن تنحر السمينة ، وتمنح الغزيرة ، ويفقر الظهر ، ويطرق الفحل ، ويسقى اللبن " .

و" إفقار الظهر " : هو إعارة فقار المركوب ، وهو الظهر ، كما قد جاء في الرواية الأخرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية