المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1716 [ 902 ] وعن حكيم بن حزام ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أفضل الصدقة ، أو خير الصدقة عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول) .

رواه البخاري (1472)، ومسلم (1034)، والنسائي (5 \ 69) .


[ ص: 80 ] وقوله : ( وابدأ بمن تعول ) ; يعني : أنه يبدأ بكفاية من تلزمه كفايته ، ثم بعد ذلك يدفع لغيرهم ; لأن القيام بكفاية العيال واجب ، والصدقة على الغير مندوب إليها ، ولا يدخل في ذلك ترفيه العيال الزائد على الكفاية ، فإن الصدقة بما يرفه به العيال أولى ; لأن من لم تندفع حاجته أولى بالصدقة ممن اندفعت حاجته في مقصود الشرع .

وقوله : (" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ; أي : ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس وحقوق العيال . وقال الخطابي : أي : متبرعا ، أو عن غنى يعتمده ، ويستظهر به على النوائب . والتأويل الأول أولى ، غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله بها على الأنصار ; إذ قال : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وقد روي : أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيف فنوم صبيته وأطفأ السراج ، وآثر الضيف بقوتهم . وكذلك قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه ; أي : على شدة الحاجة إليه والشهوة له ، ولا شك أن صدقة من هذه حاله أفضل .

وفي حديث أبي ذر : (أفضل الصدقة جهد من مقل) . وفي حديث أبي هريرة : (سبق درهم مائة ألف) ، قالوا : وكيف ؟ قال : (رجل له درهمان ، فتصدق بأحدهما ، ورجل له مال كثير ، فأخذ من [ ص: 81 ] عرض ماله مائة ألف فتصدق بها) . فقد أفاد مجموع ما ذكرنا : أن صدقة المؤثر والمقل أفضل ، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى وبين قوله : (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) ; على تأويل الخطابي .

فأما على ما أولنا به الغنى ، فيرتفع التعارض ، وبيانه : أن الغنى يعني به في الحديث : حصول ما تدفع به الحاجات الضرورية ; كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه ، وستر العورة ، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى ، وما هذا سبيله ، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به ، ولا التصدق ، بل يحرم ; وذلك: أنه إن آثر غيره بذلك ، أدى إلى هلاك نفسه ، أو الإضرار بها ، أو كشف عورته ، فمراعاة حقه أولى على كل حال ، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار ، وكأن صدقته هي الأفضل ; لأجل ما يحمله من مضض الحاجة وشدة المشقة ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية