المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
154 (34) باب

من لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه

[ 82 ] عن أبي ذر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم ، قال : فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار ، فقال أبو ذر : خابوا وخسروا ! من هم يا رسول الله ؟ قال : المسبل ، والمنان ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب .

وفي رواية : المسبل إزاره .

رواه مسلم ( 106 ) ، وأبو داود ( 4087 ) و ( 4088 ) ، والترمذي ( 1211 ) ، والنسائي (7 \ 245 ) ، وابن ماجه ( 2208 ) .


(34) ومن باب : من لا يكلمه الله يوم القيامة

(قوله : " لا يكلمهم الله ") أي : بكلام من يرضى عنه . ويجوز : أن يكلمهم بما يكلم به من سخط عليه ; كما جاء في كتاب البخاري : يقول الله لمانع الماء : اليوم أمنعك فضلي ; كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ، وقد حكى الله تعالى أنه يقول للكافرين : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ المؤمنون : 108 ] . وقيل : معناه : لا يكلمهم بغير واسطة ; استهانة بهم . وقيل : معنى ذلك : الإعراض عنهم ، والغضب عليهم .

[ ص: 303 ] ونظر الله تعالى إلى عباده : رحمته لهم ، وعطفه عليهم ، وإحسانه إليهم ، وهذا النظر هو المنفي في هذا الحديث .

و (قوله : " ولا يزكيهم ") قال الزجاج : لا يثني عليهم ، ومن لم يثن عليه عذبه ، وقيل : لا يطهرهم من خبث أعمالهم ; لعظيم جرمهم . والعذاب الأليم : الشديد الألم الموجع .

و (قوله : " المسبل إزاره ") أي : الجاره خيلاء ; كما جاء في الحديث الآخر مقيدا مفسرا . والخيلاء : الكبر والعجب . ويدل هذا الحديث بمفهومه : على أن من جر ثوبه على غير وجه الخيلاء ، لم يدخل في هذا الوعيد ; ولما سمع أبو بكر هذا الحديث ، قال : يا رسول الله ، إن جانب إزاري يسترخي ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لست منهم يا أبا بكر ; خرجه البخاري .

وحكم الإزار والرداء والثوب في ذلك سواء ; وقد روى أبو داود من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ; فمن جر منها خيلاء ، لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، وفي طريق أخرى قال ابن عمر : " ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإزار ، فهو في القميص " .

[ ص: 304 ] قال المؤلف - رحمه الله - : وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - الحد الأحسن والجائز في الإزار الذي لا يجوز تعديه ; فقال فيما رواه أبو داود ، والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري : أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما أسفل ذلك ففي النار .

والمنان : فعال من المن ، وقد فسره في الحديث ، فقال : هو الذي لا يعطي شيئا إلا منة ; أي : إلا امتن به على المعطى له ، ولا شك في أن الامتنان بالعطاء ، مبطل لأجر الصدقة والعطاء ، مؤذ للمعطى له ; ولذلك قال تعالى : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ البقرة : 264 ] .

وإنما كان المن كذلك ; لأنه لا يكون غالبا إلا عن البخل ، والعجب ، والكبر ، ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم به عليه ; فالبخيل : يعظم في نفسه العطية ، وإن كانت حقيرة في نفسها ، والعجب : يحمله على النظر لنفسه بعين العظمة ، وأنه منعم بماله على المعطى له ، ومتفضل عليه ، وإن له عليه حقا يجب عليه مراعاته ، والكبر : يحمله على أن يحتقر المعطى له ، وإن كان في نفسه فاضلا ، وموجب ذلك كله الجهل ، ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم به عليه ; إذ قد أنعم عليه مما يعطي ، ولم يحرمه ذلك ، وجعله ممن يعطي ، ولم يجعله ممن يسأل ، ولو نظر ببصيرة لعلم أن المنة للآخذ ; لما يزيل عن المعطي من إثم المنع وذم المانع ، ومن الذنوب ، ولما يحصل له من الأجر الجزيل ، والثناء الجميل ، ولبسط هذا موضع آخر .

وقيل : المنان في هذا الحديث : هو من المن الذي هو القطع ; كما قال الله تعالى : لهم أجر غير ممنون [ فصلت : 8 ] أي : غير مقطوع ; فيكون معناه : البخيل بقطعه عطاء ما يجب عليه للمستحق ; كما قد جاء [ ص: 305 ] في حديث آخر : البخيل المنان ، فنعته به ، والتأويل الأول أظهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية