المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
1763 [ 931 ] وعن أبي سعيد الخدري قال : بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بذهبة في أديم مقروظ ، لم تحصل من ترابها قال : فقسمها بين أربعة نفر : بين عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة بن علاثة ، وإما عامر بن الطفيل ، فقال رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء ، قال : فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( ألا تأمنوني ؟ وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء مساء وصباحا قال : فقام رجل غائر العينين ، مشرف الوجنتين ، ناشز الجبهة ، كث اللحية ، محلوق الرأس ، مشمر الإزار ، فقال : يا رسول الله! اتق الله . فقال : (ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟ " قال : ثم ولى الرجل . فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله! ألا أضرب عنقه ؟ فقال : (لا . لعله أن يكون يصلي " قال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم) قال : ثم نظر إليه وهو مقف فقال : (إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، قال : أظنه قال : (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود) .

وفي رواية : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (فمن يطيع الله إن عصيته ؟ ! أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني ؟ " وفيها : (إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) .

رواه أحمد (3 \ 4)، والبخاري (4351)، ومسلم (1064) (144)، وأبو داود (4764)، والنسائي (5 \ 87-88) .


وقوله : ( بذهبة في أديم مقروظ ) ; الذهبة : تأنيث الذهب . وكأنه ذهب به إلى معنى القطعة ، أو الجملة . والأديم " : الجلد . والمقرظ " : المدبوغ بالقرظ ، وهو شجر يدبغ به .

وقوله : " والرابع إما علقمة ، وإما عامر " ، هذا شك ، وهو وهم . وذكر " عامر " هنا خطأ ، فإن عامرا هلك قبل ذلك بسنين ، ولم يدرك هذا الحين . والصواب : علقمة بن علاثة ، كما جاء في الحديث الآخر من غير شك .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا أمين من في السماء ) ; لا حجة فيه لمن يرى : أن الله مختص بجهة فوق ; لما تقدم من استحالة الجسمية ، وأيضا : فيحتمل أن يراد بمن [ ص: 112 ] في السماء) : الملائكة ، فإنه أمين عندهم ، معروف بالأمانة . والسماء بمعنى العلو والرفعة المعنوية . وهكذا القول في قوله تعالى : أأمنتم من في السماء وقد تقدم أن التسليم في المشكلات أسلم .

و ( مشرف الوجنتين ) : مرتفعهما . و ( كث اللحية ) : كثيفها ، قصير شعرها ، يقال : رجل كث اللحية ، بين الكثاثة والكثوثة ، وأكث . و ( ناشز الجبهة ) : باديها ومرتفعها . و ( مقف ) : مول قفاه .

وفي هذا الحديث : أن خالدا قال : يا رسول الله! ألا أضرب عنقه . وفي حديث جابر : أن عمر بن الخطاب قال : دعني يا رسول الله ، فأقتل هذا المنافق . لا إشكال فيه ; إذ الجمع ممكن ، بأن يكون كل واحد منهما قال ذلك . وأجيب كل واحد منهما بغير ما أجيب به الآخر ، والله أعلم .

[ ص: 113 ] وقوله : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) ، وفي الأخرى : ( قتل ثمود ) ، ووجه الجمع : أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كليهما ، فذكر أحد الرواة أحدهما ، وذكر الآخر الآخر . ومعنى هذا : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقتلهم قتلا عاما ; بحيث لا يبقي منهم أحدا في وقت واحد ، لا يؤخر قتل بعضهم عن بعض ، ولا يقيل أحدا منهم ، كما فعل الله بعاد ; حيث أهلكهم بالريح العقيم ، وبثمود حيث أهلكهم بالصيحة .

وقوله : ( لعله أن يكون يصلي ) ; هو مردود للمعنى الذي قدمناه ; من أنه إنما امتنع من قتله ; لئلا يتحدث : أنه يقتل أصحابه المصلين ، فيكون ذلك منفرا ، وإلا فقد صدر عنه ما يوجب قتله لولا المانع .

وقوله : ( لم أومر أن أنقب على قلوب الناس ) ; أي : إنما أمرت أن آخذ بظواهر أمورهم ، وأكل بواطنهم إلى الله تعالى . وهذا كما قال : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله) .

[ ص: 114 ] وقوله : ( يتلون كتاب الله رطبا ) ; فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه الحذق بالتلاوة ، والمعنى : أنهم يأتون به على أحسن أحواله .

والثاني : يواظبون على تلاوته ، فلا تزال ألسنتهم رطبة به .

والثالث : أن يكون من حسن الصوت بالقراءة .

وقوله : ( يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ) ; هذا منه - صلى الله عليه وسلم - إخبار عن أمر غيب وقع على نحو ما أخبر عنه ، فكان دليلا من أدلة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك : أنهم لما حكموا بكفر من خرجوا عليه من المسلمين ، استباحوا دماءهم ، وتركوا أهل الذمة ، وقالوا : نفي لهم بذمتهم ، وعدلوا عن قتال المشركين ، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين .

وهذا كله من آثار عبادات الجهال ، الذين لم يشرح الله صدورهم بنور العلم ، ولم يتمسكوا بحبل وثيق ، ولا صحبهم في حالهم ذلك توفيق . وكفى بذلك: أن مقدمهم رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره ، ونسبه إلى الجور ، ولو تبصر لأبصر عن قرب أنه لا يتصور الظلم والجور في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما لا يتصور في حق الله تعالى ; إذ الموجودات كلها ملك لله تعالى ، ولا يستحق أحد عليه حقا ، فلا يتصور في حقه شيء من ذلك .

والرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ حكم الله تعالى ، فلا يتصور في حقه من ذلك ما لا يتصور في حق مرسله . ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصحة إيمانه ، وبأنه من أهل الجنة ، كعلي وغيره [من صحابة [ ص: 115 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مع ما وقع في الشريعة ، وعلم على القطع والثبات من شهادات الله ورسوله لهم ، وثنائه على علي والصحابة عموما وخصوصا] .

التالي السابق


الخدمات العلمية